عقب سقوط نظام الأسد وفتح أبواب الفروع الأمنية، عثرنا على ملف في مقر إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) في دمشق، يكشف عن عملية تتبّع وتجسّس تستهدف “الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية- سراج”، المنضوية كشريك محلي مع مشروع OCCRP.
قبل أقل من شهرين من الانهيار المفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي في “إدارة المخابرات العامة” أو أمن الدولة، بما في ذلك التجسّس على الصحافيين.
كشفت الوثائق التي تم العثور عليها عقب سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر، أن فرع أمن الدولة، الواقع في المربع الأمني في منطقة كفرسوسة في دمشق، كان يتحرّى حول “الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج” ، شريك منصة “درج ميديا” في سوريا منذ عام 2019 .
تتكون “سراج” من مجموعة صحافيين سوريين، نشروا بالتعاون مع منصات صحافية عالمية وعربية منها “درج ميديا” تقارير وتحقيقات استقصائية، تكشف عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في ظل نظام الأسد منذ عام 2019. لكن الوثائق تُظهر أن المخابرات العامة اختلقت نظرية مشبوهة عنهم!.
ورد في إحدى الوثائق: “المنصة المذكورة (سراج) لا تتعدّى كونها واجهة لممارسة أعمال تجسّسية، وربط مصادر وجمع معلومات عن مؤسسات الدولة السورية العسكرية والأمنية على مختلف الصعد”.
الاتّهام لا يمت للواقع بصلة، لكنه يعكس النظرة المشبوهة لنظام الأسد تجاه الإعلام المستقل – وهي نظرة غالباً ما كانت تتحول إلى عنف بحق الصحافيين.
خلال الحرب التي شنّها النظام على السوريين، خطفت قوات الأسد مئات الصحافيين، وذكرت منظمة “مراسلون بلا حدود” أن 23 منهم كانوا لا يزالون في السجن يوم سقوط النظام. وأضافت المنظمة أن سبعة صحافيين آخرين كانوا “ضحايا اختفاء قسري؛ خُطفوا إلى مواقع مجهولة”، ويضيف التقرير أن نظام الأسد وحلفاءه، قتلوا ما لا يقل عن 181 إعلامياً منذ عام 2011.
عام 2011 اندلعت الاحتجاجات في سوريا كجزء من “الربيع العربي”، حينها خرج الناس إلى الشوارع للمطالبة بالإصلاح الديمقراطي في منطقة تهيمن عليها أنظمة استبدادية، كما في مصر وتونس، والنتيجة كانت هروب بن علي وتنحّي حسني مبارك، لكن في سوريا، شنّت قوات بشار الأسد حملة قمع دموية، تحولت إلى حرب أهلية أودت بحياة أكثر من 500,000 ألف شخص.
ولكن القتل في سوريا بدأ قبل 2011 بوقت طويل، وربما لن يُعرف أبداً العدد الحقيقي للقتلى من الناشطين والصحافيين وغيرهم من المعارضين، الذين كان يعتبرهم النظام أعداء له.
قال تيبو بروتين المدير العام لـ “مراسلون بلا حدود”، لـ OCCRP: “على مدى أكثر من خمسة عقود، أصبح نظام الأسد ديكتاتورية متخصصة في إخفاء جثث ضحاياه في مقابر جماعية”.
الكثير من جرائم النظام السوري خرجت إلى العلن منذ أن هرب بشار الأسد إلى موسكو، قبل سيطرة قوات المعارضة المسلحة على العاصمة دمشق، ومع غياب الأسد، هرب العديد من حلفائه ورجال الأمن في الأفرع الأمنية، وتركوا مكاتبهم ومقراتهم فارغة، من ضمنها “إدارة المخابرات العامة”.
سمح تحالف فصائل المعارضة الذي تقوده “هيئة تحرير الشام” للصحافيين والباحثين بفحص أكوام من الوثائق الحكومية، التي يوفّر بعضها سجلاً لجرائم النظام.
وقال فراس دالاتي الصحافي السوري الذي زار مقر إدارة المخابرات العامة في 20 كانون الأول/ ديسمبر، واكتشف الملف المتعلق بـ “سراج”: “كان مسموحاً التقاط الصور، لكن كان محظوراً إخراج الوثائق من المكتب”.
الموافقة على التجسّس
كشف الملف أن إدارة المخابرات العامة بدت وكأنها تفسر الممارسات الصحافية العادية، التي يقوم بها صحافيو “سراج”، مثل إجراء المقابلات وفحص الوثائق، على أنها أعمال استخبارات سرية.
وجاء في مذكرة موجهة إلى مدير إدارة المخابرات العامة:
المنصة المذكورة لا تتعدّى كونها واجهة لممارسة أعمال تجسّسية وربط مصادر وجمع معلومات، عن مؤسسات الدولة السورية العسكرية والأمنية على مختلف الصعد، وتقديمها إلى شبكة من المنظمات الدولية الغربية المرتبطة بأجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية.”
هذا الادّعاء غريب، لأن “سراج” تنشر نتائج تحقيقاتها على موقعها الإلكتروني الخاص ومع شركائها الإعلاميين، وبالتالي فإن المعلومات التي يحصل عليها الصحافيون متاحة للجميع.
تُشير مذكرة المخابرات العامة إلى “المنظمات الدولية التي تتعاون ما تسمى منصة (سراج) المشبوهة، وتتبادل معها المعلومات بذريعة تبادل المعرفة”.
من بين هذه المنظمات المذكورة “الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية” (GIJN) وهي جمعية تضم منظمات غير ربحية، وحين عرضت الوثيقة على إميليا دياز- ستراك المديرة التنفيذية للشبكة، قالت: “الوثيقة تُشوّه عمل الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية وعمل الصحافيين الاستقصائيين.”
تركّز مذكرة المخابرات العامة على قصة نشرتها “سراج” و”OCCRP” في أيلول/ سبتمبر، كشفت عن ثغرات في نظام العقوبات، سمحت للجيش السوري بالحصول على شاحنات سويدية الصنع.
وجاء في مذكرة المخابرات العامة أنه بعد نشر التحقيق “طالب العديد من السياسيين والبرلمانيين السويديين مجلس الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بمراجعة سياسته بشأن العقوبات على سوريا”.
في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وافق مدير المخابرات العامة على عملية للتجسّس على “سراج”، وتُظهر المذكرة التي تطلب هذه العملية كيف امتدّت شبكة المخابرات العامة إلى خارج سوريا.
وجاء في الطلب: “توجيه محطاتنا في الخارج لمتابعة الموضوع وموافاتنا بالمعلومات المتوفرة، ومفصّل هويات العملاء الذين يديرون المنصة المشبوهة تحت غطاء إعلاميين”.
في ذلك الوقت، كان المدير العام للمخابرات العامة هو حسام لوقا، الذي فرض عليه الاتحاد الأوروبي عقوبات، ويُعرف بلقب “العنكبوت”، موقعه الحالي غير معروف، ولم يرد على أسئلتنا التي أُرسلت له عبر تطبيق “واتساب”.
وافق لوقا على العملية، لكن من غير الواضح من الوثائق ما هي الموارد التي تم استخدامها أو الأنشطة المحددة التي تم تنفيذها، إذ سرعان ما انهار النظام بعد ذلك.
ومع ذلك، بعد فترة وجيزة من كتابة المذكرة، زار عميلان مسلّحان من المخابرات العامة في دمشق، مكان عمل والد محمد بسيكي، مؤسس منصة “سراج” والمدير التنفيذي، الذي يعيش في الخارج. قام المسلّحان باستجواب والد بسيكي لمدة ثلاث ساعات وفتشوا هاتفه، خوفاً من الاعتقال غادرت عائلة بسيكي منزلها لبضعة أيام بعد الاستجواب.
الطريق الطويل نحو العدالة
على الرغم من أن ذلك الاستجواب كان مرعباً، لكن العديد من السوريين عانوا من أمور أسوأ بكثير في ظل نظام الأسد.
اشتهرت أجهزة الأمن بممارسة التعذيب لانتزاع المعلومات من المعتقلين، وامتلأت السجون بأشخاص يُشتبه في أنهم يعملون ضد النظام، في حين اختفى آلاف آخرون ببساطة.
مع رحيل الأسد وتشكيل حكومة مؤقتة، يطالب الضحايا وعائلاتهم بالمحاسبة، لكن يبقى السؤال: كيف ستبدو هذه المحاسبة؟.
قال تيبو بروتين من منظمة “مراسلون بلا حدود”: “العدالة الدولية تقدم طرقاً مختلفة لمقاضاة بشار الأسد، على جرائم قتل الصحافيين خلال سنوات القمع التي أعقبت الانتفاضة الشعبية عام 2011. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يأمل أن يقوم النظام القضائي السوري بالمهمة في المستقبل القريب”.
مهما كان المسار القانوني المختار، حذّر بروتين من أن تحقيق العدالة لن يكون قريباً، حيث يتعين على الباحثين تحديد الضحايا وجمع الأدلة ضد المسؤولين عن هذه الجرائم، وأضاف: “طريق طويل ينتظر كل من يريد محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الشنيعة”.
كما دعت لجنة حماية الصحافيين الحكومة السورية الجديدة إلى السعي لتحقيق العدالة للعاملين في مجال الإعلام، الذين قُتلوا وسُجنوا خلال الحرب الأهلية، وقالت اللجنة في بيان:
“تدعو لجنة حماية الصحافيين السلطات إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لضمان سلامة جميع الصحافيين”.
على الرغم من أن نظام الأسد مسؤول عن مقتل ما لا يقل عن 181 صحافياً، وفقاً لـ “مراسلون بلا حدود”، فإن 102 آخرين قُتلوا على يد أطراف أخرى، يشمل ذلك ستة صحافيين قتلهم تنظيم “هيئة تحرير الشام”، الذي يقود الآن البلاد.
لم ترد “هيئة تحرير الشام” على طلب للتعليق قبل النشر.
استعادة الثقة بالنظام القضائي تمثّل أولوية للحكومة الجديدة، وفقاً لما قاله متحدث باسمها لقناة “الجزيرة”، وأضاف: “يشمل ذلك إنشاء محاكم خاصة لمحاكمة أعضاء نظام الأسد وداعميه، الذين ارتكبوا جرائم ضد السوريين”.