تتبع فريق “سراج” و”وصول” و” ذي نيو هيومانيتيريان” على مدار عام كامل المصير النهائي لسوريين رُحّلوا من لبنان وأُجبروا على العودة قسراً إلى سوريا بين تموز/ يوليو 2023 وأيلول/ سبتمبر الماضي، على رغم امتلاكهم وثائق إقامة وأوراقاً تثبت أنهم لاجئون، كشف التحقيق والبحث أن عملية تسليم السوريين المرحّلين قسراً من لبنان إلى السلطات السورية تتم على جانبي الحدود،إذ يتولى الأمن العام اللبناني ومخابرات الجيش مهمة تنفيذ هذه العملية في لبنان، بينما على الجانب السوري من الحدود، تتولى الفرقة الرابعة و شعبة المخابرات العسكرية استلام اللاجئين السوريين المرحّلين، الذين ينتهي بهم الأمر إما معتقلين أو مختطفين أو في الخدمة العسكرية الإلزاميّة.
أُنجز هذا التحقيق بالتعاون بين الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج ، و” ذي نيو هيومانيتيريان”، ومركز وصول لحقوق الإنسان، وبدعم من مؤسسة NATIONAL ENDOWMENT FOR DEMOCRACY (NED) وُنشر باللغة العربية على موقع “درج”، وباللغة الإنكليزية على موقع The New Humanitarian.
شارك في البحث: محمد السكاف و نوار إبراهيم، تصميم ومونتاج: رضوان عواد.
في إحدى المداهمات التي وقعت في نيسان/ أبريل الماضي، اوقفت دورية للجيش اللبناني في مدينة جونية الساحلية عدداً من اللاجئين السوريين، من بينهم كريم كنعان(30 عاماً) الذي فرّ من بلدته في الغوطة الشرقية في ضواحي دمشق، أواخر عام 2013، بعد هجوم بالأسلحة الكيميائية شنه الجيش السوري على المنطقة. وقد عمل خبازاً في لبنان وكان يعيش مع زوجته وطفليه، الذين لم يتم القبض عليهم في المداهمة.
قال زياد، شقيق كريم: “تعرض العديد منهم (اللاجئون) للضرب المبرح والإهانة خلال المداهمات، ولم يُسمح لهم بأخذ ممتلكاتهم الشخصية، كما حدث مع أخي”.
بحسب شهادة زياد: “وضع الجنود كريم وجيرانه في حافلات بيضاء تحمل لوحات عسكرية، إلى جانب عشرات اللاجئين الآخرين الذين تم اعتقالهم في وقت سابق، وبلغ عددهم حوالي 40 شخصاً، بينهم نساء وأطفال”.
وقال زياد: “أنزلت الحافلات المرحّلين في المنطقة المحايدة بين الجانبين اللبناني والسوري من معبر المصنع الحدودي الذي يربط بيروت ودمشق. وأُجبروا على السير عدة كيلومترات إلى نقطة التفتيش السورية التي تسيطر عليها الفرقة المدرعة الرابعة حيث جرى تسليمهم إلى عناصر الفرقة هناك”.
وأضاف زياد الذي عَلِم بتفاصيل ما حدث مع شقيقه من خلال اتصال هاتفي وحيد جرى مع زوجته عقب ترحيله: “تمكن أخي من الاتصال بزوجته في الليلة نفسها التي تم ترحيلهم فيها، وأخبرها أنهم محتجزون من قبل الفرقة الرابعة وسيتم نقلهم إلى الشرطة العسكرية في منطقة القابون في دمشق للالتحاق بالخدمة العسكرية”.
بعد تلك المكالمة، تمت مصادرة هاتف كريم و”لم نسمع أي خبر عنه منذ تلك الليلة” حسب زياد.
يحظر الدستور السوري الحالي الاعتقال التعسفي والتعذيب بحسب المادة 53 منه، كما يحظر قانون العقوبات العام التعذيب في أثناء التحقيق وفقاً للمادة 391، إضافة إلى القانون رقم 16 لعام 2022 لتجريم التعذيب. لكن هناك نصوصاً قانونية تعارض الدستور والقانونين السابقين، وتُشرعن الإفلات من العقاب.
يعاني لبنان من أزمات اقتصادية وسياسية مركّبة، إذ تراجع الدعم الموجه للاجئين السوريين من قبل الداعمين الدوليين، وتعيش البلاد من دون رئيس، وتعاني عجزاً اقتصادياً، إذ فقدت العملة المحلية اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها، فيما تُعد المديونية من بين الأعلى في العالم، إذ يصل حجم الدين العام أكثر من 183.5% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023.
ويستضيف لبنان حوالي 1.5 مليون لاجئ سوري، نصفهم لديه صفة لاجئ معترف بها من قبل الأمم المتحدة. لكن الواقع الصعب قاد إلى خطاب معادٍ للاجئين السوريين، مع حملات ترحيل قسرية نفذها الأمن العام اللبناني بحق عشرات السوريين الذين لجأوا إلى البلد المجاور عقب اندلاع الثورة السورية.
في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، كشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، عن عمليات “اعتقال/ احتجاز استهدفت اللاجئين العائدين من لبنان هرباً من الغارات الجوية الإسرائيلية المتصاعدة وجرت عمليات الاعتقال عند المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا الرسمية وغير الرسمية، واقتيد معظمهم إلى مراكز الاحتجاز الأمنية والعسكرية في محافظتي حمص ودمشق. تم اعتقال ما لا يقل عن 9 أشخاص من اللاجئين معظمهم من أبناء محافظة ريف دمشق، وعلى خلفية التجنيد الإلزامي والاحتياطي”.
منذ نيسان/ أبريل 2023 رحّل لبنان أكثر من 760 لاجئاً سورياً، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف عدد من تم ترحيلهم في السنوات الأربعة السابقة مجتمعة، وفقاً لمركز “وصول” لحقوق الإنسان الذي يوثّق عن كثب أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان. أما هذا العام، فقد تم ترحيل 524 شخصاً منذ بداية العام الحالي وحتى 18 تموز/ يوليو الماضي وفقاً للمركز.
لكن ماذا حلّ بهؤلاء المرحّلين قسراً بعد أن تم تسليمهم إلى سلطات النظام السوري على الجانب الآخر من الحدود؟ و ما هو مصيرهم النهائي بعد أن أعيدوا إلى المكان الذي فروا منه قبل عشر سنوات؟ وكيف تعامل معهم الأمن السوري قبل موجة النزوح المعاكسة التي تشهدها حالياً الحدود السورية للاجئين لبنانيين ومواطنين سوريين باتجاه سوريا، بعدما قررت إسرائيل تكثيف ضرباتها الجوية ضد “حزب الله” اللبناني، وشن هجوم بري على جنوب لبنان في 1 تشرين الاول/ أكتوبر الحالي، إذ اضطر عشرات اللاجئين السوريين في لبنان للعودة إلى سوريا؟
المتحدثة باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ليزا أبو خالد، تقول في ردها على فريق التحقيق أن نحو 276 ألف شخص عبروا الحدود إلى سوريا منذ تصاعد الأعمال العدائية في لبنان ويُقدر أن حوالي 70% منهم من السوريين و30% من المواطنين اللبنانيين.
ظهرت حالات لسوريين على وسائل التواصل الاجتماعي يَشكون من عمليات الترحيل وسوء المعاملة وإجبارهم على العودة إلى سوريا.
وقال الأشخاص الذين أجرِت معهم “سراج” مقابلات، ومنهم لاجئون مسجّلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) في لبنان منذ 2012، إن الجيش اللبناني اقتاد المرحّلين إلى الحدود وسلّمهم مباشرة إلى الفرقة الرابعة. بعضهم اعتُقلوا أو اختفوا بعد عودتهم إلى سوريا.
ووفقاً لمركز “وصول” الحقوقي، فقد انقطعت أخبار قرابة 120 من المرحّلين خلال العام الماضي منذ اعتقالهم على الجانب السوري.
في هذا التحقيق وعلى مدار عام كامل، حاولنا تتبّع وتقصّي المصير النهائي لسوريين رُحّلوا من لبنان وأُجبروا على العودة قسراً إلى سوريا بين تموز/ يوليو 2023 وأيلول/ سبتمبر الماضي، برغم أنهم يملكون وثائق إقامة وأوراقاً تثبت أنهم لاجئون، ممنوحة لهم من السلطات المحلية، من خلال مقابلات وشهادات حصرية مع 24 لاجئ سوري رُحّلوا من لبنان و ينحدرون من مناطق جغرافية متعددة.
“تم اعتقال ما لا يقل عن مئة سوري العام الحالي من اللاجئين الذين تم إعادتهم قسراً من لبنان من أهالي الزبداني ومضايا والقلمون، وتم تسليمهم إلى الفرقة الرابعة والمخابرات العسكرية، معظمهم يتم احتجازه في نقطة معبر المصنع ومن ثم يتم اقتياده إلى الشرطة العسكرية في دمشق للبت في أمره إما للاحتياط أو الخدمة الإلزامية أو للأفرع الأمنية”.
بحسب مدير مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، المحامي مروان العش “تم تحويل ثمانية منهم إلى المحكمة العسكرية في المزة”.
يقول محمد حسن المدير التنفيذي لمركز “وصول” الحقوقي من بيروت: “إن المنشقين العسكريين والنشطاء والصحافيين وغيرهم ممن يُعتقد أنهم معارضون لحكم الأسد هم الأكثر عرضة للتعذيب بعد ترحيلهم إلى سوريا”.
ويضيف: “وثّقنا عدداً من الحالات لجنود منشقين تعرضوا للتعذيب حتى الموت بعد ترحيلهم”.
أجرت الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية “سراج” وموقع “ذي نيو هيومانيتيريان” (The New Humanitarian) مقابلات حصرية مع مرحّلين مؤخراً ما زالوا موجودين في سوريا، وكذلك مع أقارب لمرحّلين قُتلوا في سجون النظام أو فُقدوا بعد تسليمهم إلى السلطات السورية.
العديد من اللاجئين المرحلين استُدعوا إلى مقرات أمنية وتم التحقيق معهم “بهدف جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن اللاجئين السوريين في لبنان بشكل عام”، وفق ضابط منشق عن الأمن السوري.
بعد الترحيل… تجنيد في الجيش
تتم عملية تسليم السوريين المرحّلين قسراً من لبنان إلى السلطات السورية عبر جانبي الحدود. يتولى الأمن العام اللبناني ومخابرات الجيش مهمة تنفيذ هذه العملية في لبنان، بينما على الجانب السوري من الحدود، تتولى الفرقة الرابعة و شعبة المخابرات العسكرية استلام اللاجئين السوريين المرحّلين.
وبحسب عمليات البحث التي أجرتها وحدة “سراج”، تتفرد الفرقة الرابعة والميليشيات المحلية التابعة لها بالانتشار على طول الحدود اللبنانية السورية (375 كيلو متراً). لذلك، فإن كامل عملية الاعتقال الأولي للمرحلين أو الذين يحاولون العبور إلى لبنان تتم من قبل عناصر هذه الفرقة، أو من قبل ميليشيات محلية تمتهن التهريب وتتبع لها أيضاً.
حجم الأموال التي بحوزة المعتقلين أو التي يستطيع ذويهم تأمينها، هو ما يحدد مصيرهم، بغض النظر عن نوع التهمة الموجهة إلى المعتقل أو إذاعة البحث التي صدرت بحقه.
المعتقلون الذين يستطيعون تأمين الأموال يتم إطلاق سراحهم، أما غالبية المعتقلين الذين يعجزون عن ذلك، فيتم تحويلهم الى أفرع شعبة المخابرات العسكرية.
يقول جهاد يازجي رئيس تحرير نشرة سوريا الاقتصادية Syria Reports: “الفرقة الرابعة لديها المكتب الاقتصادي، مهمته جمع الأموال وتمويل الفرقة. إن الحواجز العسكرية التابعة للفرقة هي إحدى وسائل جمع الأموال، خاصة من على الطرقات بين مختلف مناطق السيطرة خلال نقل البضائع وسفر المواطنين… إن الفرقة الرابعة هي جزء من الجيش السوري تم خصخصتها، وتحوّلت إلى شركة لصالح رجل أعمال اسمه ماهر الأسد، متاح له جمع الأموال بالطريقة التي يريدها، لأنه مسلح وقادر على فرض سيطرته بقوة السلاح”.
يتولى ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري بشار الأسد، قيادة الفرقة الرابعة، ويمتلك سلطة أمنية وعسكرية كبيرة في سوريا. وهو مطلوب في فرنسا بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.حدّد فريق التحقيق قرابة 16 معبراً غير شرعي (Geolocations) باستخدام البيانات مفتوحة المصدر، يديرها كل من “حزب الله” اللبناني والفرقة الرابعة السورية على جانبي الحدود، النقاط المشار إليها بصفتها غير شرعية لا تخضع للسلطات القضائية أو الأمنية في البلدين، وتُدار بشكل مستقل من قبل “حزب الله” والفرقة الرابعة. شكّلت هذه المعابر غير الشرعية ثقباً أسود ابتلع الكثير من اللاجئين السوريين المرحّلين من لبنان إلى سوريا عبرها، ومركزاً أساسياً من خلاله تتم عمليات الخطف والإخفاء القسري، وإدارة عمليات التفاوض لتحصيل الأموال من ذوي المرحّلين من لبنان.
لاجئ سوري رُحّل قسرياً من لبنان، وأصبح الآن مجنداً قسرياً في الجيش السوري قال لـ”سراج” و”ذي نيو هيومانيتيريان”، في تموز/ يوليو الماضي بعد ثلاثة أشهر من ترحيله من لبنان: “كنا نظن أننا سنعيش في ظروف أمنية أفضل في لبنان”، وأضاف: “لم نتخيل أبداً أن نجد أنفسنا في الخطر نفسه الذي هربنا منه”، متحدثاً بشرط عدم الكشف عن هويته.
يشكّل ترحيل السوريين انتهاكاً لالتزامات لبنان الطرف في اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، كانون الأول/ ديسمبر 1984، التي تحظر على الدول الأعضاء إجبار أي إنسان على العودة إلى موطنه إذا كان هناك سبب للاعتقاد بأنه سيتعرض للتعذيب. وكذلك بموجب مبدأ عدم الإعادة القسرية في القانون الدولي العرفي، الذي يعني عدم إعادة الأشخاص قسراً إلى بلدان يواجهون فيها خطراً واضحاً يتمثّل في التعرض للتعذيب أو غيره من أشكال الاضطهاد.
وأوضح محمد حسن، الذي يعمل على توثيق الانتهاكات بحق اللاجئين السوريين في لبنان: “المرحّلون في سن الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية يتم في الغالب إلحاقهم بوحدات جديدة، مثل الفرقة الرابعة، ثم يتم نشرهم في جبهات القتال”.
وقال: “معظم المرحّلين هم في سن الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية”، وقد “لاحظنا نمطاً. إذ يُعطى المرحّلون الذين يجتازون الفحص الأمني إشعاراً لمدة أسبوعين للالتحاق بالخدمة العسكرية، بينما الذين لا يجتازون الفحص يتم اعتقالهم أو إخفاؤهم ببساطة”.
في نيسان/ أبريل 2023، تم تسليم شقيقين سوريين إلى الفرقة المدرعة الرابعة بعد ترحيلهما من لبنان، تحدث أحدهما إلى “سراج” و”ذي نيو هيومانيتيريان” بينما كان يؤدي الخدمة الاحتياطية في الجيش السوري.
“داهمت مخابرات الجيش اللبناني أماكن يقيم فيها سوريون… واعتقلت نحو 23 سورياً من منازلهم”، كما يقول من مكان داخل الأراضي السورية، ويضيف “تم احتجازنا لساعات، ثم تركتنا مخابرات الجيش اللبناني كلنا داخل الأراضي السورية، بالقرب من نقطة التفتيش التابعة للفرقة الرابعة عند معبر المصنع”.
وكشف الفحص الأمني أن الشقيقين، إلى جانب خمسة آخرين من المرحّلين، مطلوبون للخدمة العسكرية الإلزامية أو كانوا تحت المراقبة لأسباب أمنية أخرى. وتم إرسالهم إلى فرع الأمن العسكري 248 في دمشق، حيث تم التحقيق معهم لمدة تسعة أيام أخرى، قبل تسليمهم إلى الشرطة العسكرية، ثم تم تكليفهم بوحدات عسكرية مختلفة للخدمة.
وقال المُرحَّل: “نحن ما زلنا في الخدمة العسكرية الاحتياطية”، وأضاف: “الأوضاع الأمنية سيئة للغاية، ولا أستطيع الدخول في تفاصيل أكثر”.
وفي حين يُعتقد أن لبنان وسوريا يتعاونان في عمليات الترحيل، لا يعتقد مركز “وصول” أن الدافع هو معالجة نقص المجندين في سوريا. بدلاً من ذلك، يعتقد المركز أن الجيش السوري يسمح بعمليات الترحيل لجمع الأموال من المرحّلين الذين يسعون للفرار من البلاد مرة أخرى.
وقال حسن: “لاحظنا أن الفرقة الرابعة تُنسق مع عصابات تهريب البشر والمهرّبين لابتزاز المرحّلين من أجل السماح لهم بالهروب من سوريا عبر طرق غير نظامية”.
في شباط/ فبراير 2024، أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريراً يؤكد مواجهة العديد من السوريين الفارين من الحرب انتهاكات جسيمة عند عودتهم إلى سوريا، مثل الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإخفاء القسري، والخطف، إضافة إلى مصادرة الممتلكات والحرمان من وثائق الهوية.
ردت المفوضية العليا للاجئين UNHCR على اسئلتنا بخصوص الترحيل، وأكدت على لسان ليزا أبو خالد أن الأمن العام اللبنانيّ حول في عام 2024 إليهم 1343 سوري ضمن عمليات الترحيل، وتم ترحيل 905 منهم، وفي ذات العام تدخلت المفوضيّة باسم حوالي 975 سوري (من أصل 1343) فيما تم ترحيل 590 منهم.
بالإضافة لذلك، منذ مطلع عام 2024، تم إعلام المفوضيّة بـ485 حادث ترحيل نفذتها القوات المسلحة اللبنانيّة، وخلال عام 2023 تعرض على الأقل 13700 شخص للترحيل أو الإبعاد عن الحدود (pushback operation) على يد القوات المسلحة اللبنانيّة.
لم يرد الجيش اللبناني على اسئلة فريق التحقيق حول عمليات الترحيل ودور المفوضية في هذه المرحلة وطلب من فريق التحقيق توجيه الأسئلة الى جهاز الأمن العام
الموت بعد شهرين من الترحيل!
قبل الترحيل، يتم تجميع اللاجئين السوريين في نقاط محدّدة مثل البقاع (نقطة المصنع الحدودية) وشبعا (ثانوية شبعا الرسمية) والنبطية (مدرسة عبد اللطيف فياض) وطرابلس (محلة المعرض) وجبل لبنان (ملعب بلدية برج حمود). ثم يتم نقلهم إلى سوريا عبر معبري المصنع والعبودية الحدوديين.
تم ترحيل أحمد عدنان شمس الدين الحيدر، البالغ من العمر 19 عاماً، إلى سوريا في نيسان/ أبريل الماضي، وكان قد فرّ مع تصاعد العنف في مسقط رأسه البوكمال شرق سوريا، في عام 2022، وعمل في لبنان في قطاع البناء.
قال أحد أقاربه لـ”سراج” و”ذي نيو هيومانيتيريان” في تموز/ يوليو الماضي: “تم اعتقال أحمد من قبل الفرقة الرابعة قبل وصوله إلى دمشق على طريق بيروت – دمشق، من دون أي مذكرة توقيف قانونية، ولم يُمنح الفرصة للتواصل مع عائلته أو محامٍ، وظل مصيره مجهولاً لمدة شهرين”.
أحمد كان بصحة جيدة عند اعتقاله، لكن في أواخر حزيران/ يونيو الماضي، اتصل مسؤول عسكري سوري بالعائلة، وأبلغهم أن أحمد توفي بنوبة قلبية أثناء احتجازه لدى مديرية المخابرات العسكرية.
وقال: “طُلب منا استلام جثته من المستشفى العسكري في دير الزور، لكن عندما استلمنا الجثة، لاحظنا علامات واضحة على التعذيب، وأُخبرنا المسؤول عسكري لاحقاً أن أحمد قد اعتُقل بسبب خطأ في الهوية، وأنه لم يكن الشخص المطلوب من قبل السلطات في الأصل”.
وقالت آية مجذوب نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية إن “لبنان مُلزم بموجب مبدأ عدم الإعادة القسرية بعدم إعادة أي شخص إلى بلد قد يواجه فيه خطر التعذيب أو الاضطهاد. وبدلاً من العيش في خوف بعد الفرار من الفظائع في سوريا، ينبغي حماية اللاجئين في لبنان من المداهمات التعسفية وعمليات الترحيل غير القانونية”.
جمع معلومات عن اللاجئين!
تتعدّد الجهات المخوّلة بعمليات الاعتقال للمرحلين من اللاجئين بعد وصولهم إلى سوريا.
ويأتي في مقدمة هذه الجهات الفرقة الرابعة، كون عناصرها وحواجزها هم أول من يواجه القادمين من لبنان إلى سوريا عبر الحدود البرية، وهي المخوّلة بضبط الحدود اللبنانية السورية من الطرف السوري، وتتمتع بسلطة تتجاوز نقاط تفتيشها الخاصة ولديها مراكز احتجاز خاصة بها في مطار المزة وغيرها.
وتشمل هذه الجهات عناصر الفرقة الرابعة، على وجه الخصوص، إضافةً إلى فرع الأمن العسكري في حمص (261) وفرع المنطقة (الأمن العسكري في دمشق) 227، التي شكلت أبرز الجهات التي قامت بعمليات اعتقال تعسفي للمرحّلين بعد تسليمهم على المعابر أو أثناء وجودهم بالقرب من الحدود بعد تركهم من قبل السلطات اللبنانية.
وكشف ضابط أمن منشق عمل في الإدارة العامة لوزارة الدفاع التابعة للنظام السوري في اتصال هاتفي مع “سراج”، أن فرع الأمن العسكري في المحافظات يمارس عمليات الاعتقال التعسفي بشكل أساسي بعد الاستدعاء، بهدف التحقيق مع المرحّلين بعد وصولهم إلى مناطقهم الأصلية. وأشار إلى أن الأجهزة الأمنية السورية تهدف من عمليات التحقيق إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان عموماً، بهدف ملاحقتهم ومحاسبتهم لاحقاً، وذلك كجزء من إجراء تأديبي روتيني.
وصل محمد (اسم مستعار) إلى لبنان مع زوجته وطفليه عام 2014 وبعد تسع سنوات وبينما كان مصاباً بسبب عمله، اقتحم الجيش اللبناني منزله واعتقله بالقوة والضرب مع 30 رجلاً آخرين معهم أطفال ورماهم على الجانب السوري في طريق بين الجبال.
يقول محمد: “تم تسليمنا إلى كتيبة عسكرية لبنانية، قامت بإعادة وثائقنا لنا بعد عمليات ضرب وإهانة ووضعنا على طريق بين الجبال داخل سوريا، بينما كنّا صائمين من دون طعام أو شراب”.
قرّر جزء من المجموعة العودة إلى لبنان عبر الجبال، فيما قرّر حسان مع ستّة آخرين الدخول إلى سوريا، بعد سماعه بوجود مرسوم رئاسي لتسوية أوضاع من هم مطلوبين للخدمة الإلزامية، وعند وصوله إلى أول حاجز في سوريا، قامت الفرقة 18 بتسليمه إلى الأمن العسكري الذي حقّق معه بالضرب المبرح وأحاله إلى فرع فلسطين.
يشرح الشاب: “وصلنا الساعة الواحدة ليلاً، تم تعريتنا من ملابسنا وضربنا بشكل مبرح والتحقيق معنا، بعد أن اتهمونا بأننا إرهابيون، ثم وضعونا في زنزانات مكتظة، ثم أحالوني في 18 نيسان/ أبريل إلى فرع فلسطين مع 12 شخصاً آخرين مُرحّلين من لبنان، وتم تكرار الحالة ذاتها، عرّونا من الملابس وربطونا وعصبوا أعيننا ثم بدأوا بالتحقيق معنا عبر الضرب بالكرباج والأيدي، وبعد ذلك قاموا بنقلنا إلى زنزانة فيها 70 شخصاً، ثم عاودوا التحقيق معنا عبر التعذيب الشديد لعدّة أيام، البعض اعترف أنه كان يقاتل مع “جبهة النصرة” برغم أنه غادر سوريا قبل تأسيسها”.
رفض محمد الاعتراف لمعرفته بعواقب ذلك، فاستمرّ تعذيبه لمدّة 25 يوماً كان يفقد الوعي في كل مرة يتم ضربه فيه على مفاصله، حتى تم نقله إلى صالة تحت الأرض فيها مساجين غارقون في دمائهم تم ربطهم من أيديهم وأرجلهم، ولكنه لم يعترف.
بعد 25 يوماً من التعذيب المستمر، تم نقله في 23 أيار/ مايو إلى القضاء العسكري، ولكن لم يكن هناك قاضٍ، فتم عرضه مع مجموعة مرحّلة من لبنان على قاضٍ مدني في ريف دمشق الذي أعطى البراءة بشكل مباشر لكل شخص ليس منشقاً أو مطلوباً للخدمة العسكرية.
بعد الخروج يقول محمد: “لم أكن أعرف أحداً، كان والد أحد المعتقلين معي، يتابع معنا ودفع أموال طائلة لمعرفة مكاننا، قام باستلامنا وتلقّيت العلاج لمدّة أسبوع في دمشق، ثم خرجت وقرّرت العودة إلى لبنان بشكل غير شرعي”.
عبر محمد إلى لبنان عبر التهريب، ولكن لما جرى انخفض وزنه من 82 إلى 40 وما زال يعاني من مرض عصبي يجعل جسمه يرتجف باستمرار، وهو غير قادر على تأمين ثمن الدواء في لبنان.
لم ترد وزارات الدفاع والداخلية والشؤون الاجتماعية والعمل السورية على أسئلة فريق التحقيق، لجهة إعطائه حق الرد وتقديم تفسير عن سبب اعتقال اللاجئين المرحّلين قسراً من لبنان، وتعرضهم للتعذيب في الأفرع الأمنية.
يرى الباحث العسكري في شؤون جماعات ما دون الدولة عمار فرهود، أن “الفرقة الرابعة المدرعة تتمتع بسلطة على حواجزها الخاصة، وتقوم بوضع أسماء المطلوبين على تلك الحواجز، وتحتفظ بقوائم تشمل أسماء المطلوبين للأفرع الأمنية السورية”، ويوضح أنه “عند اعتقال هؤلاء الأفراد، تقوم الفرقة بتسليمهم إلى الأفرع الأمنية لاستكمال الإجراءات”.
حياتهم في خطر
بحسب وثائق اطّلع عليها فريق التحقيق، فقد تم البدء في تنفيذ خطة حكومية لبنانية تم التوصل إليها بالتعاون مع حكومة النظام السوري في حزيران/ يونيو 2023، تضمنت اتفاقية مع وزير الداخلية السوري محمد الرحمون ووزير الإدارة المحلية والبيئة حسين مخلوف، تهدف إلى تسهيل عودة اللاجئين السوريين من لبنان إلى سوريا.
ووفقاً للوثائق، من المقرر أن يتم تأمين عودة حوالي 15 ألف لاجئ سوري شهرياً من لبنان إلى سوريا.
وسيتم توفير مراكز إيواء لهؤلاء اللاجئين في سوريا، تشمل الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والبنية التحتية والتعليم والنقل.
وتم الاتفاق أيضاً على بدء تنفيذ الخطة في المخيمات التي يعيش فيها أكثر من 600 ألف لاجئ، وسيتم إعطاء الأولوية لعودة الأشخاص الذين لا توجد لديهم ظروف تعتبر عائقاً لعودتهم إلى سوريا. هذه الظروف قد تشمل أن يكون الشخص مطلوباً للخدمة العسكرية، أو مطلوباً للقضاء، أو أن يكون لاجئاً سياسياً.
في أيلول/ سبتمبر 2023، قال وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية بسام المولوي، إن “النزوح السوري يهدد ديمغرافية لبنان”، معرباً عن عدم رضاه عن طريقة تعاطي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مع القضية و”امتناعها” عن تسليم قاعدة البيانات الخاصة باللاجئين السوريين في لبنان إلى الأمن العام اللبناني، وفق قوله.
وقال المولوي عن أزمة اللجوء السوري إن “الأمر لم يعد يُحتمل وهو يهدد ديمغرافية لبنان وهويته”.
في الدورة الثامنة لمؤتمر بروكسل حول “دعم مستقبل سوريا والمنطقة” في أيار/ مايو الماضي، تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم مبلغ 2.46 مليار يورو للفترة 2024 -2025. وستدعم هذه المساعدة السوريين داخل سوريا وأولئك الموجودين في البلدان المجاورة، بالإضافة إلى المجتمعات المضيفة لهم.
كما تم في الشهر نفسه الإعلان عن حزمة مساعدات أوروبية للبنان بقيمة مليار يورو لغاية عام 2027.
انشقاق عن الجيش بعد الترحيل
ليس المرحّلون قسراً من لبنان إلى سوريا هم من تعرضوا لعمليات خطف وتجنيد من قبل الفرقة الرابعة، بل أيضا الذين قرروا العودة من تلقاء أنفسهم بسبب المضايقات والوضع المعيشي الصعب في مخيمات اللجوء في لبنان.
في خيمته الممزقة شمال سوريا، يؤكد رمزي اليوسف أنه عندما عاد إلى سوريا، وجد نفسه في مواجهة حقيقة مروعة تخص السوريين العائدين من لبنان. إذ التقى عدداً كبيراً منهم كانوا يُعتقلون ويُحتجزون في سجون النظام السوري، بلا محاكمة عادلة لمجرد عودتهم من لبنان.
يقول: “في تلك الأماكن المظلمة والمرعبة، كان معظم المعتقلين يشتركون في قصة مماثلة لقصتي: إما أنهم كانوا من العائلات التي تم ترحيلها قسراً من لبنان، وإما كانوا يحاولون العودة من سوريا عبر التهريب وأُلقي القبض عليهم عند العودة. هكذا هم السوريون لا مأوى ولا وطن!”.
في مقابلة مع فريق التحقيق من مكان إقامته في مخيم أطمة في ادلب، قرب الحدود مع تركيا، قال الشاب الثلاثيني: “كانت الحياة في لبنان صعبة للغاية. تعرضت للعنف والتمييز، ما دفعني وعائلتي للعودة إلى الشمال السوري”.
خلال فترة إقامته في لبنان، حيث عمل في عدة وظائف، عايش اليوسف وأسرته أشكالاً متعددة من المعاناة؛ إذ “كنا نواجه العنصرية بشكل يومي، وكانت حتى أبسط الأمور، مثل لعب أطفالنا مع الأطفال اللبنانيين محظورة علينا”، كما يروي، و”شهدنا أزمات متعددة من نقص الغذاء والوقود، وكنا دائماً موضع شكوى وعدم تقدير من قبل السلطات والمجتمع”.
فيما يخص العودة إلى سوريا، ردت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين على أسئلة التحقيق، إنه حتى نهاية شهر سبتمبر من العام 2024، تحققت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) من عودة 8,092 لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا. و بالمجمل، منذ عام 2016، تحققت المفوضية من عودة ما يقرب من 98,400 لاجئ سوري من لبنان إلى سوريا من بينهم رمزي اليوسف.
بعد العودة إلى سوريا في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، اعتُقل رمزي اليوسف وعائلته على حاجز إيكاردا في حلب التابع للفرقة الرابعة، وفيما بقيت زوجته وأطفالهما الثلاثة في الاحتجاز العسكري لثلاثة أيام، استمر اعتقاله لمدة ثلاثة أشهر، متنقلاً بين حلب ودمشق.
“أخبرتني زوجتي أنه عندما بكت طفلتنا الصغيرة، ضربها السجان لتتوقف عن البكاء، من دون أي مراعاة لعمرها”.
وقد جاء إطلاق سراح الزوجة والأطفال بعد موافقة اليوسف على الانضمام إلى الجيش السوري للقتال كمجند. يقول اليوسف: “لم أرغب في القتال ضد أقاربي وأهلي في الشمال السوري، لقد استغللت أول فرصة للهرب إلى الشمال السوري”، وهو ما شكل تحدياً جديداً بالنسبة له، إذ يعيش رمزي وعائلته في مخيمات الشمال، ضمن ظروف حياة صعبة.