رنا الصباغ تكتب.. عودة الألق لصحافة القيم كما عرفناها؟
الغد– فينيكس/ أريزونا (الولايات المتحدة) – يبدو أن الألق يعود مجددا إلى صحافة الأخلاق التقليدية التي تتطلب وقتا وجهدا في خدمة المجتمع ومساءلة المسؤولين كما عرفناها حتى ثمانينيات القرن الماضي. إحياء ذلك النمط الملتزم من الإعلام بات ضرورة حتمية في مواجهة سيل من الأخبار المفبركة والتحريضية تصنّع في أصقاع العالم كافة، بما يهدّد السلم الأهلي ويؤجج الصراعات العرقية والمذهبية. فنحن أمام إعلام “فبركنجي” يرتع في غالبية المجتمعات؛ بدءا من أعرق الديمقراطيات وانتهاء بالعالم العربي الذي يقبع في أسفل المقاييس الدولية للحريات الإعلامية.
تلكم كانت إحدى خلاصات مؤتمر ريادي لصحافة المساءلة والعمق عقد قبل أيام في مدينة (فينيكس) الأميركية بمشاركة أكثر من 1600 إعلامي وإعلامية، معظمهم من الولايات المتحدة. كما تصدرت هذه الخلاصة مضامين الدورة العاشرة لمنتدى الإعلام العالمي، الذي نظمته مؤسسة دويتشه فيليه الألمانية في مدينة بون خلال 19-22 حزيران (يونيو) بمشاركة عدد مماثل من فرسان الإعلام في العالم.
في تشخيص انهيار المنظومة الأخلاقية والاحترافية، يرى أصحاب مدرسة القيم والمهنية أن مئات المنابر الإعلامية باتت “خراطيش مذخّرة” وأدوات للحشد والتعبئة بيد ثنائية السلطة ورأس المال. ذلك الانهيار يأتي على حساب القيم وقواعد تنظيم المهنة، التي تراكمت على مدى قرون.
شاهدنا تهافت منصات إعلام وانحدار قيمها على ثلاثة مستويات: وطني، إقليمي ودولي. جميعنا يتذكر كيف تتراشق منصّات إعلام لبنانية بأخبار تحريضية ومفبركة في كل مرّة يشتعل الشارع فيها هناك على وقع مكاسرات بين الأحزاب المتضاربة هناك. الأزمة المتفاقمة بين أقطاب مجلس التعاون الخليجي، تعيد إلى الأذهان خطورة تجنيد المنصّات الإعلامية في الخلافات السياسية والأيديولوجية.
في مؤتمر فينكس، تحدث عديد مشاركين عن انكشاف مريع لوسائل إعلام بما هو نقطة تحول في اتجاهات الجماهير الضائعة والمصدومة من هول الشائعات والأخبار المزيفة، التي تنتقل حول العالم بسرعة البرق عبر منصات التواصل الاجتماعي. وطالبوا بانتهاز هذه الفرصة النادرة لإعادة الاعتبار للإعلام التقليدي الأصيل، الذي يتمسك بالمبادئ المهنية والأخلاقية في تغطية الأحداث والأزمات، ويحترم عقول المتابعين في تقديم المعرفة الصادقة والحقائق المتكاملة. فهذا دور “السلطة الرابعة” الأصيل في خدمة المجتمع، لمصلحة الحوكمة الرشيدة بدلا من الانبطاح أبواقا دعائية في فخاخ الاستقطاب.
واحتفى المشاركون في المؤتمر الأميركي بـ”العصر الذهبي” لانبعاث صحافة الاستقصاء في مواجهة الفساد واستغلال السلطة، إذ حصد مشروع سلسلة “وثائق بنما” العابر للقارات جائزتين دوليتين جديدتين على هامش مؤتمر فينيكس. رسّخ هذا التقدير قوة صحافة البيانات في نبش الوثائق من قواعد المعلومات الرقمية، تبادلها ثم تحليل مضامينها بين 100 مؤسسة إعلامية حول العالم عبر فضاءات مشفّرة، خارج أطر الرقابة التقليدية وسيطرة الحكومات، سواء أكانت ديمقراطية أم سالبة للحريات.
في الأثناء تحدث مشاركون عن تسارع ازدياد حصّة اشتراكات القرّاء في صحيفتي (الواشنطن بوست) و(النيويورك تايمز)، بسبب تحقيقاتهما الاستقصائية وخطّيهما التحريرين اللذين يستجلبان غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب وشتائمه. ويزداد مشاهدو فضائية “سي إن إن” وغيرها من المنصات، التي لم تسلم من لسان ترامب، رئيس أقوى دولة في العالم. فهو يمتشق “التويتر” لشن قصف عشوائي ضمن حملة ترويع السلطة الرابعة وتهميشها وتهديد من يعمل في سلكها.
لإحياء مسار صحافة القيم والإنصاف، تعكف مؤسسات خيرية كبرى – بما فيها “الفورد فاونديشن” مثلا – على إسناد برامج دعم عالمية تركّز على صحافة الاستقصاء بدءا من أميركا وانتهاء بدول الشرق الأوسط.
وخلال 2017، قفز عدد شبكات صحافة الاستقصاء غير الربحية إلى 145 منظمة، صعودا من 110 في 2016. معظم هذه الشبكات تشجّع صحافة المساءلة من خلال توفير التدريب والدعم المالي، التقني والقانوني لرواد الاستقصاء، بهدف نشر هذا الضرب من الإعلام الغائب أو المغيب عن غالبية غرف التحرير العربية والعالمية بسبب ارتفاع كلفته المهنية والسياسية والقانونية.
ضرب مشاركون مثالا على جرأة الصحفي ديفيد فاهرنثولد من (واشنطن بوست)، والذي فاز بجائزة بوليتزر عن أفضل تغطية وطنية لحملة انتخابات الرئاسة الأميركية (2016). ووصفه محكّمون بأنه “أنشأ أنموذجا للشفافية في تغطية الحملات الانتخابية، بتشكيكه في تأكيدات ترامب بخصوص “عطائه السخي للمؤسسات الخيرية” بما فيها مؤسسة المتقاعدين العسكريين. فاهرنثولد نشر أكثر من عشرة تحقيقات وثلاثة تقارير، بعضها تتّبع الفارق بين النظري والفعلي حيال نشاطات ترامب الخيرية، التي كانت إحدى أدوات الاستحواذ على عقول الناخبين. استخدم الصحفي في كشوفاته هذه آلية مبتكرة من خلال حسابه على تويتر، إذ سأل كل من يعرف شيئا عن أنشطة ترامب الخيرية أن يرسل له معلومات، وبذلك ارتفع عدد متابعيه من 4.600 الى 60.000 خلال الحملة الانتخابية. بهذه الأداة – المرتكزة إلى حشد المصادر – حصل الصحفي الأميركي على خيوط عديدة، فتعقب مساراتها ووثّق حقائقها.
وتحدث مؤتمرون عن فريق (النيويورك تايمز) الذي حصد جائزة بوليتزر عن سلسلسة مقالات حول مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لترسيخ سطوة روسيا في خارج بلاده، خصوصا القصة التي دفعت المخابرات الأميركية للاستنتاج بأن حكومة بوتين سعت للتأثير على سير الانتخابات الأميركية لمصلحة ترامب.
غالبية الأحاديث خلال المؤتمر ركّزت – على نحو غير معهود- على أهمية إحياء أركان الصحافة التقليدية، القائمة على الكد والعرق والسفر إلى وجهات الأحدات، ثم مقابلة مصادر متعددة ومقارنة تصريحاتها مع ما يتوافر من حقائق لفرز محتوى عادل، نزيه أقرب إلى الحقيقة. في المقابل، انتقد المشاركون وجبات الأخبار الحديثة المستندة إلى الفبركة والتغطيات السطحية، التي تنتشر كالنار في الهشيم على شكل لمع قصيرة تحاكي رغبات غالبية المتصفحين من فئة الشباب.
مثل هذه الأخبار الالكترونية “المزيفة” باتت تؤرق حتى اللاعبين الكبار في فضاء الانترنت. منصة التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، المتصفح الأشهر (موزيلا)، وموقع الإعلانات العملاق (كريغ ليست)، كانت أعلنت في نيسان (إبريل) الماضي عن إطلاق مبادرة لمحاربة الأخبار المزيفة على الشبكة العنكبوتية. المشروع الذي وصل تمويله إلى 14 مليون دولار – بمساهمة عشرات المعاهد العلمية والمنظمات غير الربحية حول العالم- يهدف إلى تحسين قدرة المستخدمين على التحقّق من المعلومات المنشورة على المواقع الالكترونية لحمايتهم من الوقوع ضحايا الشائعات والتضليل.
في الأثناء، يبدو العالم العربي غائبا عن مثل تلك النقاشات والمبادرات وسط شبه غياب ثقافة التوثيق والتحقّق من المصادر في غالبية غرف الأخبار العربية، المنقسمة على وقع الاستقطابات الحادة في المنطقة. فخلال الأزمة الخليجية الأخيرة، تابع المواطن العربي وما يزال مسلسلات من الاتهامات والاتهامات المضادة المبنية على وثائق وأشرطة فيديو وتسجيلات يصعب التحقق من مدى صدقيتها وأصالة مضامينها. ومنذ اندلاع الربيع العربي غصّت منصّات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية، وحتى بعض الفضائيات الكبرى بأشرطة فيديو عن عمليات قتل وتعذيب بشعة تبيّن لاحقا أنها مفبركة أو تعود لأحداث وسياقات مختلفة.