الصحافة الاستقصائية في عصر التكنولوجيا والتطور السريع
شبكة الصحفيين الدوليين:
في هذا العصر الذي نعيشه، عصر الإنترنت، يمر التحقيق الصحفي بفترة تجديد. فبعدما كان الصحفيون الذين يكشفون الأسرار والفضائح يعملون بمفردهم، حاملين معهم دفتر الملاحظات أو جهاز التسجيل فقط، فإن كثير من الصحفيين الإستقصائيين الآن يعملون بالتعاون مع شبكات إقليمية أو دولية، وتساعدهم التكنولوجيا الحديثة والمعدات التي تعمل بدورها على تغيير وجه العمل الصحفي. وتقول مارينا ووكر جيفارا، والتي تعمل في الإتحاد الدولي للصحفيين الإستقصائيين (ICIJ) إن “فكرة الصحفي الاستقصائي وهو يعمل لوحده في ركن منعزل في مكان ما من العالم لاتمت للواقع بصلة الآن”.وقد تعامل الإتحاد مع اثنين وعشرين صحفي من أربعة عشر دولة في التحقيق الذي نشر مؤخراً عن تجارة التبغ الغير مشروعة حول العالم. وحسب ما نشر على الموقع الاليكتروني للإتحاد، فبالتعامل مع مثل هذا الفريق، تمكن الصحفيون من تغطية الموضوع “بدءاً من المزورين في الصين والمصانع في روسيا إلى محميات الهنود الحمر في نيويورك وأمراء الحرب في باكستان وشمال أفريقيا”.وخلال مدة التحقيق، والتي استمرت ثلاثة عشر شهراً، اعتمد الفريق الصحفي على موقع اليكتروني مؤمن على الإنترنت للعمل والمناقشة وتبادل الوثائق والصور والفيديو والتحرير. واستطاع العمل، والذي أطلق عليه “التبغ تحت الأرض”، أن يكشف عن تجارة غير مشروعة لتهريب التبغ، والتي تقدر بعدة مليارات من الدولارات وتقوم بتمويل الجرائم والفساد والإرهاب وتروج لما يضر بالصحة حول العالم. وكل ما توصل له فريق العمل الصحفي من معلومات موجود في صيغة ملف مجهز بواسطة وسائط متعددة ومعلومات مأخوذة من وثائق عامة ومصادر مطلعة وتسجيلات أخذت من قبل الصحفيين في الإتحاد.
وكما هو الحال مع “التبغ تحت الأرض”، فإن الكثير من القصص الإستقصائية هذه الأيام تتطلب أشهراً وحتى سنيناً من العمل والبحث، وفرقا كبيرة من الصحفيين. والكثير من هؤلاء الصحفيين موزعين حول العالم. وكما يقول مدير الإتحاد ورئيس التحرير في “التبغ تحت الأرض”، دايفيد كابلان، فإن بإستطاعة الصحفيين الآن العمل على هذه القصص الإستقصائية بصورة أفضل من قبل.ويقول كابلان “لقد اتسع التحقيق الإستقصائي ليشمل العالم كله. فإستعماله أصبح مطلوبا في أبعد نقطة في العالم وحتى في أماكن لايمكن توقعها، في أماكن يمكن أن يتسبب مثل هذا العمل بمقتل الصحفي”.
ويضيف كابلان، بما أن الصحف تتجه لتقليل المصاريف المترتبة على عملها، فإن المراكز الإستقصائية هي الجهة المسببة لهذا الإنتشار. أول ثلاثة مراكز إستقصائية كانت كلها أمريكية: صندوق تنمية الصحافة الإستقصائية (1969) والصحفيون والمحررون الإستقصائيون (1975) ومركز الصحافة الإستقصائية. ويوجد الآن أكثر من خمسين مركزاً استقصائياً حول العالم، ونصف هذا العدد قد أنشأ بعد عام 2000. ويعود الفضل الى مراكز وشبكات دولية مثل الإتحاد الدولي للصحفيين الإستقصائيين في توفير منابر للصحفيين للتواصل والعمل على التحقيقات الإستقصائية. ويتكون الإتحاد من مائة صحفي من خمسين دولة، ويتطلع القائمون عليه للتوسع أكثر. وتقوم المراكز الأخرى، مثل الصحفيون العرب في مجال الصحافة الإستقصائية والمركز الروماني للصحافة الإستقصائية ومنتدى الصحفيون الإستقصائيون الأفريقيون (FAIR)، بمساعدة الصحفيين على التواصل والتجمع والتدريب. وسيستضيف منتدى الصحفيون الإستقصائيون الأفريقيون في نهاية هذا الشهر في جوهانسبورغ المؤتمر الأول للصحافة الإستقصائية.وفي شهر آب الماضي، كرَّم المؤتمر الامريكي اللاتيني للصحافة الإستقصائية سلسلتين من التحقيقات الإستقصائية التي ألقت الضوء على الفساد العام في البرازيل وإدارة الحسابات الغير مشروعة داخل الكنيسة الكاثوليكية في كوستاريكا—وكانت التقارير عبارة عن قصص من دولتين ليس لديها باع طويل في الصحافة الإستقصائية. وتقول جيفارا “لم يكن من السهل العمل على تقرير يشير إلى هذه المؤسسة في كوستاريكا، والتي تعتبر بلداً كاثوليكياً جداً”.وفي بلدان معروفة بتعسفها ضد الإعلام، إستطاع الصحفيون أن يجدوا طرقاً مختلفة للعمل على التحقيقات الإستقصائية عن طريق التطرق الى المواضيع الأقل حساسية، مثل المواضيع المالية وما يخص المستهلك ومواضيع النظام الصحي والبيئة. ويقول كابلان “لايمكن التطرق الى المواضيع التي تخص الحزب الشيوعي في الصين. ولكن يمكن العمل على مواضيع الفساد على المستوى المحلي”.ويعطي كابلان مثالاً على مايقوله المجلة الصينية “كيجنك” التي برزت بكونها بودقة للصحافة الإستقصائية بعد التطرق الى مواضيع الأموال والتحقيقات المالية. وكذلك في سوريا، فقد دعم مركز الصحفيين العرب من أجل الصحافة الإستقصائية مشروعا للتحقيق في السلامة الغذائية. ويقول كابلان “المهم في هذا الموضوع أن تَخلُق الآلية بإيجاد صحفيين تدربوا على مثل هذا النوع من التحقيقات. وبعد ذلك كل شئ يصبح أسهل”.وحتى في البلدان التي لديها إعلام مستقل، فإن العمل على القصص الإستقصائية يتخلله بعض التحديات. فمثلاً خلال العمل على التحقيق “التبغ تحت الأرض”، أثبتت عدة عوامل، منها اللغة والثقافة والمشاكل التقنية والعمل في أقاليم ذات توقيت مختلف كونها تحديات يحسب لها الحساب. ويضيف كابلان إن أحد التحديات كان العمل مع صحفيين من بلدان مختلفة وإمكانيات مختلفة.ويقول “على سبيل المثال، فإن العمل تحت غطاء السرية يعتبر آخر ما يلجأ له الصحفيون في أمريكا. ولكن بالنسبة لكثير من زملائنا الصحفيين، كان التخفي هو الوسيلة الوحيدة لإنجاز العمل”.والصحفيون الذين عملو على “التبغ تحت الأرض” قاموا بالتخفي عندما عملوا في الصين وباكستان وروسيا. حتى إنهم في بعض الأحيان إستخدموا كاميرات بحجم أزرار القميص. والصحفي تبنغ جن الذي يعمل مع الإتحاد الدولي للصحفيين الإستقصائيين في الصين إنتحل شخصية مهرِّب من أمستردام للتخفي أثناء العمل. وفي منطقة الحدود الواقعة بين الباراغواي والبرازيل والأرجنتين، استخدم الصحفيون عدسات مضللة في الكاميرات أثناء التصوير. وقد أضافت هذه التسجيلات صورة وصوت للنص في التحقيق “التبغ تحت الأرض “، وهو مايعطي القارئ أدوات مختلفة للحصول على المعلومات. فبالإضافة لثمانية عشر نصاً في التحقيق، يحتوي “التبغ تحت الأرض” على فديو وصورا لمهرِّب مقعد من إل-باسو وعميل سابق في مكتب التحقيقات الفدرالي والذي إنتحل شخصية عضو في المافيا الإيطالية. يقوم التسجيل الفديوي بأخذ المشاهد في رحلة الى معمل للسكائر تحت الأرض في روسيا (تحت) وخلف كواليس التجارة في الصين. وتسمح الخريطة التفاعلية للقارئ بتصور ورؤية ممرات التهريب والإنتاج الممنوع للسكائر وعدة مناطق رئيسية للتهريب. وهنالك أيضا صفحة كاملة تحتوي على روابط تأخذ القارئ الى مصادر أخرى للمعلومات.
ويقول جن أنه بسبب طبيعة القصة والشخوص داخلها والتعقيدات فيها، فإن الوسائط المتعددة إستُخدمت على أنها أحد المكونات الرئيسية في العمل منذ البداية. ويضيف “التحدي الدائم في الصحافة الإستقصائية هو جمع المعلومات الكثيرة، وفي هذه الحالة كانت المعلومات عن سوق سوداء للسكائر المهربة تقدر بـ 600 مليار دولار، وتصنيف هذه المعلومات وتقنينها بصورة تمكِّن شخصاً جالساً أمام الكومبيوتر من الوصول إليها وإستيعابها”.ومع ذلك، فسيجد القارئ في “التبغ تحت الأرض” قصصاً وتقاريراً تحتوي على 4000 أو 5000 كلمة مكتوبة بالأسلوب الإستقصائي التقليدي. وقد قامت صحف عديدة حول العالم بترجمة القصة ونشرها. ويمكن الحصول على التقرير على شكل كتاب أليكتروني. تقول جيفارا “نعتقد أن التكنلوجيا عظيمة. وقد حاولنا إستخدام ما كان متاحا لنا في “التبغ تحت الأرض”. ولكن ما جعل القصة ممكنة هو أن هؤلاء الصحفيون يعرفون أدواتهم ولديهم مصادرهم ويستطيعون فتح الأبواب الموصدة”.ويقول كابلان، الذي لديه 30 سنة خبرة في الصحافة الإستقصائية حول العالم، أن على الصحفيين الإستقصائيين إستخدام التكنولوجيا “كعنصر مكمِّل” لأن الكثير من المصادر بدأت بالإختفاء. ويكرِّس الإتحاد الدولي للصحفيين الإستقصائيين حاليا مصادر كثيرة لخدمة مشروع UJIMA، وهو مجموعة من القواعد البيانية والوثائق والمعلومات متوفرة للصحفيين في أفريقيا فقط حالياً. وحالما يصدَّر المشروع عالمياً، سيكون بإمكان الصحفيين حول العالم الحصول على معلومات عن تسجيلات العملاء الأجانب ووثائق بيع الأسلحة وعقود التنمية ومعلومات من الأمم المتحدة، وكل ذلك عن طريق بحث بسيط على الإنترنت. ويقول كابلان “أصبحت غرف الأخبار أصغر ومنافذ الأخبار أصغر، ولم يعد لدينا المصادر التي كانت متوفرة في السابق. ولكن لدينا الآن شيئا رائعا لم نكن نمكله في السابق، وهو الأدوات والتقنيات المتوفرة حالياً”.وقد حصل الإتحاد على تكريم عن “التبغ تحت الأرض” خلال توزيع جوائز “نايت-باتن” للإبداع في الصحافة والذي أقيم في واشنطن العاصمة الشهر الماضي. وقد ألقت القصة الضوء على تهريب السكائر حول العالم، ولفتت إنتباه الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ووفود الدول المشاركة. وكما يقول كابلان، حتى مع الطرق الجديدة لجمع المعلومات، تبقى الصحافة الإستقصائية كحرفة مرتكزة على نفس المبادئ التي بنيت عليها وتتطلب نفس المهارات، مثلا كيفية التفكير المنتظم في كتابة القصة وإيجاد عدة مصادر للمعلومات والتمحيص في الوثائق العامة وإجراء اللقاءات وتتبع الخيوط الدالة على الشخوص والتمويل. ويقارن كابلان الصحفيين الإستقصائيين بـ “رجال الشرطة المخلصين ورجال العدل الشرفاء الذين يتمنون بأن يتركوا العالم على شكل أفضل مما وجدوه”. ويضيف “نغوص في أعماق المواضيع الشائكة ونحاول النظر فيما إذا كان الناس الذين يملكون السلطة والقوة يطبقونها بمسؤولية. وهذه هي الطريقة المثلى للتحقيق”.–لزيارة موقع “التبغ تحت الأرض”، أنقر هنا. ولزيارة ICIJ على موقع “فايسبوك”، أنقر هنا.