الموقع قيد التطوير

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit

سورية: “تهريب الحجر”

تحقيق: دحّام الأسعد – اسطنبول على مسافة كيلومترين اثنين من الحدود التركية – السورية، داخل بيت قديم يقع في ضواحي مدينة الريحانية جنوب تركيا، فتح […]

تحقيق: دحّام الأسعد – اسطنبول

على مسافة كيلومترين اثنين من الحدود التركية – السورية، داخل بيت قديم يقع في ضواحي مدينة الريحانية جنوب تركيا، فتح يوسف بحذر كيس خيش بنيّ اللون، كبير الحجم، وبدأ إخراج حجر ثقيل من داخله، لكن ببطء، خوفاً عليه من الكسر.

حين رفع الحجر من الكيس، رأيت وجه إنسان منحوت على حجر أبيض، تتوسطه عينان كبيرتان ولحية، حفرت على ذاك الوجه بعناية فائقة، ويغطي الرأس شعر أجعد.

ما أن أزاح الرجل الكيس بالكامل، حتى ظهر جسم عار، رياضيّ، من الرخام  الخالص، يقف متكئاً على عمود مغطى بجلد أسد مقتول.

“شوف ما أحلاه” قال يوسف مبتسماً، وهو يحدق في ما بين يديه. إنه تمثال من سوريا، يبلغ طوله نصف متر، ومصنوع من الحجر المائل للون الأخضر. “رح يغير حياتي ويغنيني”، يقول لمعد التحقيق.

ما أدخله يوسف من سوريا لتوه، أملاً بأن يصبح غنياً، هو ما دفعنا للبحث أكثر في خلفيات نقل وتهريب الآثار والمقتنيات السورية ثم بيعها، بخاصة بعد رواج أعمال التنقيب والاتجار غير المشروع داخل البلاد، وتجاوزه الحدود إلى دول الجوار، والتي رافقت سنوات الصراع منذ 8 أعوام، إذ لم يقتصر النزيف السوري على هجرة الملايين من البلاد، بل تعداه إلى تهريب الحجر (الآثار).

تستفيد الشبكات التي تتاجر بالآثار بيعاً وشراءً وتهريبها إلى دول الجوار، والتي تضم حلقات متعددة بين مواطنين عاديين، وسماسرة، ووسطاء، وتجار، من بيئة افتراضية ترسخها مواقع التواصل الاجتماعي لتصريف هذه البضاعة، عبر الإعلان عنها، وبيعها.

في هذا التحقيق وعلى مدار 4 أشهر من التعقب، كشف فريق من الصحافيين عن الطريقة التي يروج بها للاتجار بالآثار السورية المهربة من سوريا بعد اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي من أجل خلق الطلب كما فعل يوسف، وتعزيز عمليات البيع، حيث تجد من يعرض القطع الأثرية، وتجد المهتمين بالشراء، وكذلك تفاصيل ما يتم عرضه، مع لائحة الأسعار، وطرق التوصيل وغيرها، وهو ما قادنا إلى إنجاز هذا التحقيق لنفهم كيف يتم الاتجار بالآثار، ولمن تباع؟ وأين تجد مقرها الأخير؟

حسابات على مواقع التواصل تروّج لبيع الآثار

لا تقديرات رسمية لحجم الآثار التي تم تهريبها ونهبها من سوريا على مدار السنوات الأخيرة، أو تلك التي عبر بها مهربون ووسطاء وتجار الحدود، لكن تقديرات منظمة “يونيسكو” العالمية ترجح أن الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية من سوريا والعراق، بمثابة منظومة من مصادر الدخل الرئيسية للإجرام المنظّم (دخلها يقدر بين 7 و15 مليار دولار سنوياً).

في 13 شباط/ فبراير 2019، أعلنت الشرطة التركية عن مصادرة أربعة كتب قديمة “لا تقدر بثمن” مكتوبة باللغة السريانية والآرامية، بينها كتاب يصوّر حياة يسوع المسيح، وتعتقد الشرطة أنه ربما تم تهريب الكتب من متاحف سوريا، سرعان ما تبين من خلال عمليات الفحص التي أجريت على الكتب أنه لا يوجد عليها أختام تدل على تسجيلها، وأن بعض أجزاء الكتب تم قطعها، ما قد يعني أنها كانت تحوي أرقام محفوظات المتحف الذي سرقت منه.

وقبل ذلك، ضبطت السلطات 168 قطعة أثرية سورية مهرّبة، تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية والعثمانية، في ولاية غازي عنتاب.

وكان مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI، أصدر عام 2015 تحذيراً، على خلفية انتعاش الإتجار بالآثار السورية على خلفية الصراع، أشار فيه إلى أن الآثار التي نهبت في سوريا تباع في الأسواق السوداء الأوروبية.

لذلك تم إيجاد بدائل، حيث تتم معظم المعاملات الخاصة ببيع التحف والآثار حالياً عبر شبكات ضيقة أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي بما في ذلك Facebook والتراسل الفوري عبر WhatsApp، وتيليغرام. ويعرض موقع eBay صوراً لتحف من أصل سوري بأسعار مختلفة، وبفضل التكنولوجيا تصل شبكة الإنترنت إلى المشترين المحتملين بتدقيق أقل ومجهولية أكبر، على ما يثبته هذا التحقيق.

رقيم طيني معروض للبيع من حضارة ما بين النهرين على موقع آي باي

بحسب مدير الآثار والمتاحف في مدينة الرقة السابق، الدكتور أنس الخابور، والذي عمل في مدينة الرقة بين الأعوام 2003 إلى 2008، ويقيم حالياً في السويد، وهو بروفيسور في جامعة غوتنبرغ، متخصص بالإرث الثقافي المهدد بالخطر في مناطق النزاع مثل سوريا والعراق، فإن أشهر المناطق التي تخرج منها الآثار المهربة إلى دول الجوار والعالم هي المناطق الأثرية الكبيرة، مثل مدينة تدمر (2100 قبل الميلاد)، ومدينة أفاميا في ريف حماة (300 ق.م)، والمدن المنسية في إدلب مثل سرجيلا والبارة وقلعة سمعان التي تعود حقبتها إلى العصر البيزنطي (330م).

من أين تأتي الآثار؟

يوسف، وهو في منتصف العقد الثالث من العمر، بجسم ضخم ولحية خفيفة تغطي وجهه الحنطي، كان يعرض بعض القطع الأثرية، كالعملات الذهبية والقوارير الزجاجية الرومانية، على صفحته في “فيسبوك”، باسم وهمي.

تواصل معه معد التحقيق وطلب مقابلته، للوهلة الأولى فاعتقد أننا تجار ونريد شراء ما لديه. عرّفناه بأننا صحافيون، فأخذ وقتاً حتى وافق على مقابلتنا في مقهى في مدينة أنطاكيا الحدودية مع سوريا.

الشاب الذي يتاجر ببيع القطع الصغيرة الأثرية، مثل العملات المعدنية الرومانية أو الحلي الذهبية، إضافة إلى القارورات المصنوعة من الزجاج، كان يخبئ في شقة قريبة تمثالاً لـ”هرقل” أو “هيركلوس”، أخرجه من مدينة تدمر، بعدما عثر عليه هو وابن عمه، في أحد البساتين في المنطقة الأثرية.

ويعرف “هرقل” بأنه البطل الذي يشتهر بقوته الخارقة، وهو ابن الآلهة اليونانية المشهورة “زيوس”، ويمثل هرقل عند كل من الرومان واليونانيين أيقونة في الأدب والفن الغربي والثقافة الشعبية. ووجوده في مدينة تدمر ليس مصادفة، على اعتبار أن المدينة تعود إلى الحقبة اليونانية والرومانية وهي امتداد لها في عام 282م.

يقول يوسف: “عندما حدقت في التمثال للمرة الأولى وكان مغطى بالطين، اعتقدت أنني سأصبح غنياً، سرعان ما عرضته على تجار، لكنني صدمت لأنهم لم يدفعوا لي المبلغ المطلوب”.

يريد يوسف مقابل بيع التمثال مبلغ 100 ألف دولار (55 مليون ليرة سورية)، يشرح لنا بصوت خافت وهو يشعل سيجارة ويقول “في سوريا التجار يستغلوننا”.

أكبر الأعمال المربحة

تشكل المنحوتات، والتماثيل، والمنمنمات، والرقيمات والألواح الطينية والفخارية، والعملات، وألواح الفسيفساء القديمة التي تعود إلى حضارات سابقة سكنت الأراضي السورية منذ آلاف السنين، أهم ما يتم الإتجار به، وهو ما تكشفه صور صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وما باح به سماسرة ووسطاء وتجار التقاهم معد التحقيق.

يتكفل أفراد وشبكات بنقل المقتنيات إلى دول الجوار تهريباً ومن ثم بيعها إلى أطراف أخرى، أو الاحتفاظ بها بانتظار الحصول على السعر المطلوب والذي يقدر بآلاف الدولارات.

في منطقة الحدود، تعرض للبيع قطع من سوريا، تعود إلى حضارات وممالك قديمة على طول نهر الفرات، وهي مِن أقدم الحضارات في العالم، مثل: مدينة ماري الأثرية والتي ازدهرت في الألف الثالث قبل الميلاد، ودورا أوروبوس (300 ق.م)، ومناطق الساحل السوري، مثل أوغاريت (6000 ق.م).

وفق مطالعة الخابور، فإن “معظم الآثار التي تهرّب، هي من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، حيث جرت المناطق عمليات تنقيب، وعمليات نهب المواقع الأثرية”. ويوضح أن “عمليات التنقيب تتم في مواقع معروفة مسبقاً، كالمواقع التي عملت فيها البعثات الأثرية، إضافة إلى المواقع غير المكتشفة بعد، كالتلال الأثرية، وهناك الكثير من الأسواق العلنية للأثار المسروقة داخل سوريا أيضاً”.

يقول مدير تنفيذ وتسهيل، في منظمة الجمارك العالمية (WCO) غاوزانغ شو، في مؤتمر دولي في باريس خصص للنقاش حول ”التراث والتنوع الثقافي معرضان للخطر في العراق وسوريا” عام 2014، “إنّ نهب الممتلكات الثقافية هو واحد من أقدم أشكال الجريمة المنظمة عبر الحدود وأصبح اليوم ظاهرة منتشرة في العالم أجمع. تهريب التراث الثقافي لا يزال يشكل كارثة تضرب بتراث الدول في شتى أنحاء العالم. فكل عام، تختفي آلاف القطع الأثرية من المتاحف والكنائس والمجموعات الخاصة أو المؤسسات العامة. ابتداء من الأسلحة القديمة إلى اللوحات، وقطع العملات والساعات، والتحف الدينية والقطع الأثرية والتراث الثقافي، كلها تتعرض للسرقة”.

“معظم الآثار التي تهرّب، هي من المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، حيث جرت المناطق عمليات تنقيب، وعمليات نهب المواقع الأثرية”

وبحسب شو، “ثبتت العلاقة الواضحة بين هذا النوع من الجريمة والتهرب الضريبي وغسيل الأموال. ولا يمكن تقدير الربح العائد من الأعمال الفنية المنهوبة أو المسروقة أو المهربة بشكل موثوق، ولكن الخبراء يتفقون على أنه يمثل واحداً من أكبر شركات العالم اللا مشروعة، والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وهو ما يغري الجريمة المنظمة”.

تسويق القطع المنهوبة

لكي تصبح غنياً، وهو ما يريد أن يحققه كل من يعمل في هذه التجارة، لا يكفي العثور على قطع أثرية بعد التنقيب غير المشروع عنها، بل يجب أن يتعداه إلى بيعها أو نقلها خارج الحدود السورية، وهو بالضبط ما فعله يوسف حين عثر على تمثال هرقل.

شرح لنا الرجل العملية “تواصلنا مع مهرب في إدلب وبعدها أدخلنا التمثال على ظهر الحمار، لأنه ثقيل الوزن ولا يمكن أن أركض وأنا أحمله”.

وصف لنا يوسف في غرفة المنزل الذي قابلنا به هذه العملية، مشيراً من نافذة هذه الغرفة المطلة على الجبل إلى طريق جبلية تمكن رؤيتها بالعين المجردة من خلال النافذة، “من هناك دخلت، دفعت ألف دولار (550 ألف ليرة سورية) للمهرب”.

رحلة التمثال

نقل يوسف التمثال من مدينة تدمر إلى الرقة في سيارة، وذلك في بداية عام 2017، وكانت المدينة وقتها تحت سيطرة تنظيم “داعش”.

ثم نقله إلى مدينة الباب في ريف حلب الشمالي، التي كانت تحت سيطرة التنظيم، لينقله بعدها إلى إدلب التي كانت تحت سيطرة فصائل من الجيش الحر، ليستقر به المطاف في مدينة حارم على الحدود السورية – التركية.

تؤشر عملية النقل هذه إلى أن سيطرة التنظيم على المدن السورية، سهلت عمليات التنقيب والاتجار غير المشروع في الآثار لجهة نقلها والقدرة على عرضها وبيعها.

يقول يوسف: “كان تنظيم داعش يعطي من خلال ديوان الركاز وهو المسؤول عما يوجد تحت الأرض من نفط أو آثار، تصاريح للتنقيب عن الآثار، مقابل حصوله على 20 في المئة من ثمن القطع التي يتم العثور عليها”.

بحسب الخابور، ويوسف وآخرين، قابلناهم في هذا التحقيق، فإن أسواق الآثار خارج حدود سوريا هي البلدان المجاورة مثل تركيا ولبنان والعراق والأردن.

تجار الخليج الكبار

في جنوب تركيا، تجار الآثار عادة على ارتباط ببعضهم بعضاً، عبر برامج الاتصال والمحادثات السريعة عبر الانترنت، فيتابعون عمليات تهريب الآثار الذي يشمل القطع الاثرية الحجرية، والذهب، والقطع المعدنية.

اسحاق وجمعة، تاجران سوريان “صغيران” (حجم نشاطهما صغير) كما يقولان، لأنهما يعتقدان أن “التجارة لها مراتب، تبدأ من صاحب القطعة الأثرية، ثم يأتي دور السماسرة، وتنتهي العملية بـ”الحوت” أي الرجل الذي يشتري كل شيء”.

حفز الوضع في سوريا على تجارة الآثار غير المشروعة، وبات السكان المحليون ينقبون عن اللقى والتحف، بسبب الفقر وقلة الموارد كما حدث مع جمعة، الذي يستفيد وإسحاق من وسائل التواصل الاجتماعي ومن تطور التكنولوجيا في عمليات البيع والشراء والعرض والطلب.

يؤكد إسحاق أن وسائل التواصل الاجتماعي سهلت العمل كثيراً، فلم يعد يحتاج إلى السفر من مدينة غازي عنتاب إلى مدينة اورفا الحدوديتين مع سوريا مثلاً، لرؤية قطع أثرية دخلت من سوريا، بل يكفي أن يطلب من مالك القطعة تصويرها وأن يكتب اسمه وتاريخ اليوم إلى جانب القطعة الاثرية، ليتأكد بدوره من وجودها وصحة ما لديه، ومن ثم ليخبر من يحتاجها، وبعدها يفحصها خبراء، وأخيراً تتم عملية الشراء.

يقول إسحاق: “تباع القطع الأثرية بشكل كبير إلى تجار من الخليج العربي يشترون الآثار والذهب، ويدفعون مبالغ كبيرة جداً، أحياناً تتجاوز المليون دولار، ويستخدمون الحوالات المالية في السوق السوداء لمنع اكتشاف الأموال الكبيرة التي يحولونها”.

سمح لنا أسحاق بالذهاب معه لمعرفة طريقة تعامله مع التجار الآخرين، انطلقنا باتجاه منزل صديقه جمعة، الذي يقع بالقرب من مدينة غازي عنتاب التركية.

فضّل جمعة أن نأتي في المساء، لأن “المسا أستر يا أخي”، وأوضح لإسحاق في مكالمة هاتفية ذلك، “مشان ما يجينا وجع راس”.

فتح جمعة الباب بعدما ناداه إسحاق بصوت عالي.

جمعة في العقد الثالث من العمر، بوجه أسمر شاحب وجسد نحيل، أبدى خوفاً كبيراً من العمل في هذا المجال، وعلى حد قوله فإنه لو اكتشف أمره فإنه سيمضي بقية عمره في السجون.

في منزله الذي تبدو عليه ملامح الشح والفقر، يحدثنا قائلاً “نتحدث معكم لان هناك مافيات كبيرة تسرق المنحوتات والآثار الضخمة، لكن نحن عملنا عمل دراويش مقتصر على أمور بسيطة جداً، فقط لنعيش في هذا البلد الذي قل علينا كل شيء فيه”.

ومن دون مقدمات، بدأ الحديث بين إسحاق وجمعة عن القطع الأثرية التي بحوزة الأخير وعن سعرها وكميتها وأين بقية القطع ومن أين تم جلبها ولم يخفِ معه أي تفاصيل.

يملك جمعة عملات معدنية رومانية، ويبلغ سعر القطعة الواحدة بين 300 إلى 500 دولار (165 ألف ليرة – 275 ألف ليرة)، وجل ما يملكه نحو 150 قطعة معدنية لا تزال في سوريا، “وتم العثور عليها أثناء عمليات حفر في منطقة شمال مدينة منبج، وعملية جلبها إلى تركيا أمر سهل جداً في حال تم دفع مبلغ جيد” كما يقول.

تجارة رائجة

وكان وزير الثقافة والسياحة التركي، عمر جليك، قال في وقت سابق إن وزارته تواصل سياستها في منع دخول التراث الثقافي السوري إلى تركيا.

وأضاف أن تهريب الأشياء الثقافية السورية عبر الحدود التركية نما بشكل كبير منذ بداية الحرب السورية في 2011، لكن الحكومة تبذل الجهود اللازمة لوضع حد لعمليات التهريب عبر حدودها وداخل أراضيها.

وبحسب القانون التركي رقم 2863 الذي وضع عام 1973، فإن نقل الآثار أو تهيبها، يودي بصاحبها إلى السجن وبأحكام شاقة ومصادرة القطع، وكان تم إلقاء القبض على مهربين وتجار آثار سوريين في الآونة الأخيرة، بحسب وكالات أنباء ووسائل إعلام تركية.

هل هذه الآثار حقيقية؟

حاولنا التأكد من حقيقة التمثال الذي يملكه يوسف، ومن حقيقة صور لتحف أثرية أخرى، فأرسلنا صورة التمثال بعدما سمح لنا بتصويره، إلى عالم الآثار السويدي، ستيفان لوند، وهو دكتور مختص في آثار الشرق الأوسط، في جامعة غوتنبرغ العريقة، ومركز الأبحاث العالمية في السويد.

أكد البروفسور أنّ هذا التمثال حقيقي، وإن وصل إلى أوروبا فهو سيساوي الكثير من المال، يقول “هو تمثال هرقل، وجلد الأسد الذي في حوزته يميزه، وهو من الحقبة الهلنستية – الإغريقية”.

التأكيدات التي ساقها البروفسور لوند حول حقيقة التمثال وأهميته، أكدها بدوره عالم آثار آخر، كان يعمل رئيساً سابقاً لبعثة أثرية في سوريا قبيل عام 2011 ويعمل الآن بروفسوراً في قسم آثار الشرق الأوسط في إحدى الجامعات الأوروبية، رفض ذكر اسمه لأسباب قانونية تتعلق بعمله ومنعه من تقييم آثار في السوق السوداء.

عرضنا على الرجل صور التمثال مع صور أخرى لقطع أثرية من مواقع التواصل الاجتماعي والسوق السوداء في تركيا، وهي (رأس صبي، تمثال رخامي يُظهر هرقل، وتمثالان صغيران من التماثيل الرخامية، وكلها من الحقبة الهلنستية/ الإغريقية)، فقال في رده عبر البريد الإلكتروني بتاريخ 19 آذار/مارس الماضي، لمعد التحقيق: “من الواضح أن بعض القطع هي من مدينة تدمر، سواء من الطراز الفني وبعضها يحتوي على نقوش آرامية، وهذا يمكن التعرف إليه بسهولة شديدة، لذلك لا يمكن أن يكون هناك أي شك في أنها جاءت من تدمر، ومن الحقبة الرومانية”.

بحسب البروفسور، فإن هذه القطع الأثرية “شائعة إلى حد ما في مناطق شرق البحر المتوسط، بما في ذلك سوريا، وأن لوحات الفسيفساء وهي من الحقبة الهلنستية/ الإغريقية، شائعة إلى حد ما في المنازل الخاصة الغنية المحفورة في شرق المتوسط، والقطع بالتأكيد أصلية”.

دول ترانزيت وعبور

بحسب الخابور، الذي يملك معرفة عميقة بتراث سوريا الأثري، وتعاون مع منظمة “يونيسكو” في مسألة حماية الآثار السورية، فإن تركيا وجيران سوريا بمثابة دول عبور “ترانزيت”، لأن السوق الأخير لهذه الآثار هو أوروبا، حيث تباع بالمزادات أو في محلات التحف الفنية القديمة.

يقول: “سوق لندن جذابة لهذه القطع الأثرية، وأشهرها الآثار المهربة”، مضيفاً: “في السوق الأوروبية هناك طلب كبير على الآثار، وهذه السوق هي المكان الأفضل لبيع هذه القطع بمبالغ كبيرة”.

هذه القطع الأثرية “شائعة إلى حد ما في مناطق شرق البحر المتوسط، بما في ذلك سوريا، وأن لوحات الفسيفساء وهي من الحقبة الهلنستية/ الإغريقية، شائعة إلى حد ما في المنازل الخاصة الغنية المحفورة في شرق المتوسط، والقطع بالتأكيد أصلية”.

تزوير شهادات المنشأ

حاولنا البحث أكثر في خلفيات كلام الخابور والتأكد مما إذا كانت هذه الأسواق حقيقة جاذبة للقطع الأثرية المهربة والمنهوبة من سوريا، وإن كانت الآثار تجد في هذه الأسواق مستقراً نهائياً.

يعد التواصل مع المهربين أو السماسرة أو حتى العاملين في هذا المجال أمراً بغاية الصعوبة، بسبب خطورته. حيث باءت محاولتان لنا مع تجار اثنين بالفشل بعدما حصلنا على تواصلنا معهما عن طريق “السوشيل ميديا”، لكننا حاولنا مرة أخرى التواصل مع أحد التجار والسماسرة في أوروبا، لكن أغلبهم رفض التكلم.

جورجين في الخمسين من العمر تقريباً، وهو يتاجر بالقطع الأثرية الصينية والمصرية على حد سواء ويعيش بين ألمانيا وفرنسا، وينحدر من الدنمارك.

تكلمنا معه، وقلنا له إننا نريد أن نبيع قطعاً أثرية، فسألنا إن كان هناك صور. فأجبناه بنعم، وبعدها وافق على مقابلتنا بصفتنا مالكين للقطعة الأثرية، وليس بصفتنا صحافيين.

قابلنا بسيارته في إحدى العواصم الأوروبية، “ما هي القطعة التي تريد أن تبيعها؟” سأل مباشرة حال وصولنا، فأعطيته صورة تمثال هرقل.

وضع نظارته الطبية، وهو يحدق في صورة التمثال، سأل بتعجب “هل لديه (التمثال) أوراق؟” اجبناه “كلا”. فسأل “هل هو موجود في أوروبا؟”.

أجبت “كلا موجود في تركيا”، فقال “إن وصل إلى أوروبا سوف نتكلم”.

الأوراق التي قصدها جورجين في سؤاله، هي ما يشبه جواز السفر ويعرف بأنه “شهادة منشأ”، يجب أن تتوافر مع كل قطعة مراد بيعها أو الاتجار بها بشكل قانوني، أي أن التمثال ربما كان في أحد مزادات القطع الفنية، وأن هناك وثائق ورقية عن عمليات بيع وشراء التمثال من قبل، أو كان مملوكاً من قبل عائلة معروفة في العالم ولديهم صور قديمة للتمثال في منازلهم.

شرح لنا أوراق القطع الأثرية المهربة ضرورية للمتاجرة بها بشكل قانوني، عن طريق تزوير شهادات المنشأ الخاصة بها، فتصبح جاهزة للإتجار المشروع، وبالتالي عرضها في دور المزادات العالمية وبيعها بأسعار خيالية.

هذه إحدى الطرائق التي من خلالها تجد التحف واللقى الأثرية المنهوبة من سوريا طريقها إلى الأسواق العالمية والمزادات ودور العرض حول العالم، وبالتالي تتجنب الرقابة الحكومية والمصادرة.

يعلق الخابور، على ما ذكره التاجر حول عمليات بيع الآثار من قبل تجار وسماسرة وعن المستقر النهائي لها، بالقول “هي شبكات منظمة وليست جديدة إذ ازدهر هذا الموضوع في العراق عام 2003، إبان الغزو الأميركي، وبعدها ازدهر سوريا بعد المشكلات التي حصلت”.

سوق إمداد إلى أوروبا

تشير “مذكرة معلومات أساسية – صون التراث والتنوع الثقافي: ضرورة إنسانية وأمنية في نزاعات القرن الحادي والعشرين”، ملحق رقم 1 صادرة عن “يونيسكو” في 2014، إلى أن “التهريب يغذي منظومة اتجار غير مشروع بالممتلكات الثقافية، منظومة هي من مصادر الدخل الرئيسية للإجرام المنظّم (دخلها يقدر بين 7 و15 مليار دولار سنوياً)، وطرق هذا الإتجار تجتاز البلدان المجاورة مثل لبنان، وتركيا، والإمارات العربية المتحدة، لإمداد أسواق القطع الفنية في المملكة المتحدة، وسويسرا، والولايات المتحدة، من بين أسواق أخرى. إنها آفة عالمية، ولا تمكن مكافحتها إلا على المستوى الدولي، بمشاركة الوكالات الحكومية مثل دوائر وأجهزة الشرطة والجمارك، وبمشاركة أصحاب المصلحة في سوق الفن، بمن فيهم دور المزاد، والمتاحف، وهواة جمع الأثريات”.

اللائحة الحمراء.. والانتربول

بعض الدول الأوربية تحاول سن قوانين جديدة للحد من الإتجار بالآثار المنهوبة من الدول التي تشهد صراعات في الشرق الأوسط مثل سوريا، بسبب ارتباط هذا الملف بتمويل الإرهاب وتمويل الجماعات المتشددة مثل تنظيم “داعش” على سبيل المثال.

وتأتي هذه الجهود الآن بعدما كان مسموحاً في السابق بيع القطع الأثرية التي تصل إلى أوروبا، وفق الخابور.

استمر الوضع على هذه الحال حتى عام 2016 حين بادرت الحكومة الألمانية لوضع حد لهذه التجارة، باشتراط أن يكون لكل قطعة ورقة تعريف أو إثبات على أنها كانت عند أشخاص مهمين، حتى يُسمح بعرضها أو بيعها.

يشير الخابور إلى أن كل قطعة لا تحقق هذه الشروط تعتبر آتية بطريقة غير مشروعة ومهربة.

هناك جهود أخرى تقودها منظمات مثل المجلس الدولي للمتاحف “الآيكوم” وهو المسؤول عن متاحف العالم. وتواصل معد التحقيق مع إدارة المتحف للإفادة بأشكال وصور الأثار السورية المهربة.

بعض الدول الأوربية تحاول سن قوانين جديدة للحد من الإتجار بالآثار المنهوبة من الدول التي تشهد صراعات في الشرق الأوسط مثل سوريا، بسبب ارتباط هذا الملف بتمويل الإرهاب وتمويل الجماعات المتشددة مثل تنظيم “داعش”

أكدت الإدارة أنه صدر دليل بعنوان “لائحة الطوارئ الحمراء للممتلكات الثقافية السورية المعرضة للخطر”، طبع عام 2013 ووزع على الشرطة الدولية “الإنتربول للتعرف إلى القطع الأثرية السورية، ولمساعدة محترفي الفن، ومختصي التراث، والمسؤولين عن تطبيق القانون في تحديد هوية القطع الأثرية السورية المنهوبة التي يتم الاتجار بها في سوق الفنون الدولية”.

يحتوي الدليل على صور وأشكال للقطع الأثرية، مع تسلسل زمني، للتعرف إليها واعتراضها ومصادرتها على أن تسلم للبلد الأصلي، وتكون هذه القطع مسجلة ومرقمة في دول المنشأ وتتم مقاطعة المعلومات عنها مع الشرطة الدولية، ما يسهل عملية اعتراضها والسيطرة عليها والحد من الاتجار بها.

وبالنسبة إلى دور “يونيسكو”، وهي منظمة عالمية لتوثيق وحفظ التراث الثقافي والمادي للشعوب، وقد امتنعت عن التواصل معنا، على رغم إرسالنا أسئلة إلى مكتبها عبر البريد الإلكتروني بتاريخ 25 آذار الماضي، ولم نلقَ رداً، فيقتصر دور “يونيسكو” كما يوصفه الخابور بعمل أنشطة تركز على انسجام بين المبادرات والبحوث المتعددة حول تجارة الآثار.

وهذا الدعم يكون مادياً لكتابة بحوث عن تجارة الآثار، وكذلك في المساعدة على سن قوانين دولية لمحاربة الإتجار بها.

أما بالنسبة إلى يوسف الذي ينتظر بفارغ الصبر من يشتري تمثال هرقل، ولا يهمه بعدها أن يحصل التمثال على شهادة منشأ مزورة أو حقيقية، لكون كل ما يهمه هو تصريفه بالسعر الذي يطلبه، فيشير إلى أن من يشتري التمثال هو من يتكفل بنقله حيث يريد بالطريقة التي يريدها، موضحاً أنه “دفع لي بالتمثال 55 ألف دولار، ولم أبعه”. عرض هذا المبلغ رجل ألماني، على حد قوله.

يضيف “رح خليه عندي حتى يجي السعر اللي بدي إياه”.

أعاد يوسف تمثال هرقل الحجري إلى كيس الخيش، ربطه بإحكام بشريط معدني، حمله بين ذراعيه كطفل صغير، وغادر الغرفة، قائلاً مع ابتسامة خفيفة ناظراً إلى الكيس “ما رح تشوف الشمس يا هرقل حتى يجي الزبون الثقيل اللي يقدّرك”.

*أنجز هذا التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، وبإشراف الزميل محمد بسيكي. بدعم من منظمة Open Society Foundation. وشارك في إنجازه عدنان الحسين – علي الابراهيم، ونُشر في موقع درج


اترك تعليقًا

التسجيل غير مطلوب



بقيامك بالتعليق فإنك تقبل سياسة الخصوصية

لا يوجد تعليقات