تحقيق: أحمد حاج حمدو ومحمد حسن
“ابني حصل على فرصة عمل لكنّه خسرها لعدم حيازته أوراقاً ثبوتية”… هنا قصص سوريين يعيشون على هامش الحياة بسبب فقدانهم أوراق ثبوتية.
تحوّلت حياة اللاجئة السورية “أمينة” (اسم مستعار) وعائلتها المقيمة في مدينة طرابلس شمال لبنان إلى سجنٍ داخل المنزل، بعدما انتزع “الأمن العام اللبناني” جواز سفرها وجوازات سفر عائلتها وتجمّدت حياة الأسرة المكوّنة من تسعة أشخاص. لا يستطيعون الخروج من المنزل إلّا خلسة، ولم يعد زوج أمينة وابنها البِكر قادرين على الخروج للعمل لإعالة بقيّة أفراد الأسرة، وقد وصلت أمينة وزوجها وأولادها الخمسة إلى لبنان عام 2012 بعد إصابة زوجها بقذيفة قرب دمشق، فاحتاج إلى العلاج، لذا انتقلت الأسرة إلى مدينة طرابلس في شمال لبنان.
هناك تلّقت الأسرة مساعدات من جمعيات خيرية، كتأمين مسكن ومساعدات غذائية وعلاج لزوجها، وسجّلت العائلة نفسها في مفوضية شؤون اللاجئين في بيروت التابعة للأمم المتحدة، ولكن لم تكن لديها معلومات عن ضرورة تجديد تصريح الإقامة في لبنان، وخلال وجود الأسرة في لبنان، علم زوجها أن عليه مخالفة مالية قدرها 800 دولار أميركي (1760 مليون ليرة سورية) بسبب عدم تجديد إقامته، وبعدما استطاع تأمين المبلغ وذهب لسداده تلقّى قراراً بالترحيل من الأمن العام اللبناني
في لبنان، وضعت أمينة طفلين آخرين، أحدها وُلد بمرض خلقي، إذ كان يعاني من فتحة في القلب، وبسبب تكلفة العلاج المرتفعة في لبنان ومجّانيته في سوريا، قرّرت أمينة العودة إلى دمشق عام 2014 مع طفليها الصغيرين لاستكمال علاج ابنها المريض. تقول أمينة: “خلال ذهابي إلى سوريا منحني الجانب اللبناني بطاقات زهرية اللون لتسوية وضعي ولكنّني علمتُ لاحقاً أنّ فيها قراراً بمنع الدخول بسبب مخالفتي مدّة الإقامة”.
يمنح لبنان إقامات مختلفة للوافدين من سوريا، تتراوح من 24 ساعة (مرور إلى المطار، أو موعد في سفارة أجنبية، أو مراجعة طبيب مثلاً) لغاية السنة (بموجب طلب إقامة عمل أو طالب جامعي، أو مقيم) بعد شروط فرضتها الحكومة اللبنانية منذ بداية 2015، بعدما أصدرت المديرية العامة للأمن العام اللبناني قراراً يشترط على الداخلين الحصول على موافقة مسبقة للدخول أو بموجب تأمين أوراق إضافية، علماً أن مجلس شورى الدولة أبطل هذه القرارات وأعلن أنها غير قانونية لصدورها عن سلطة غير مختصّة (قرار مجلس شورى الدولة رقم 412/2017-2020).
عالجت أمينة ابنها في سوريا، وبعد ثلاثة أشهر حاولت العودة إلى لبنان فأخبرها أمن الحدود اللبناني أنَّ هناك قراراً بمنعها من الدخول، صُعقت أمينة عندما علمت أن السبب هو عدم تجديد إقامتها في لبنان. فعادت إلى أدراجها في سوريا، وكان زوجها تحدّث مع أحد الأشخاص في لبنان، ساعده على إدخال زوجته بموجب برقية للأمن العام كانت على الحدود، ولكن خلال دخولها مع طفليها سُحبت جوازات سفرهم منهم وتم إبلاغهم بضرورة مراجعة مركز الأمن العام اللبناني في بيروت.
وعند مراجعتها مركز الأمن العام طلب منها المسؤولون أن تعود لمراجعتهم بعد 15 يوماً، وعندما عادت إليهم طلبوا منها العودة في وقت لاحق، وتكرّرت القصة مرات عدة، ليطلب منها أحد موظّفي الأمن العام في المرّة الأخيرة ألّا تعود نهائياً، مهدداً إياها بالتوقيف.
حياة أمينة ومثلها حياة العديد من اللاجئين السوريين في لبنان، توقفت بسبب احتجاز وثائقهم الرسمية (خاصة جوازات سفر، وبطاقات هوية، إقامات) من قبل الأمن العام اللبناني، ما يتسبب لهم في تقييد حركتهم داخل البلد نفسه والسفر خارجه، إضافةً إلى الحرمان من حق التقديم للحصول على فرصة عمل، وتسجيل واقعات الأحوال المدنية (زواج، طلاق وولادات جديدة).
تهرّب من الاعتراف
الطبيعة الجغرافية لسوريا ولبنان جعلت أعداداً كبيرة من السوريين المقيمين على المناطق الحدودية تلجأ إلى لبنان هرباً من الموت مع بدء تصاعد وتيرة المعارك في الداخل السوري.
استقبل لبنان أكبر عدد من اللاجئين السوريين مقارنة بعدد سكانه، ولأن لبنان غير موقّع على الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين 1951، فلا قوانين تحمي حقوق أولئك اللاجئين، بعد تجريدهم من الصفة القانونية وتلقيبهم بـ”نازحين”، لئلا يلتزم لبنان تجاههم بأي مسؤولية سواء إعادة توطينهم أو حصولهم على حقوق المواطنين الأخرى كالصحة والتعليم والعمل، بعد الاعتراف القانوني بصفتهم الحقيقية كـ”لاجئين”. فبين المصطلحين فروقات قانونية، النازحون داخلياً، على عكس اللاجئين، هم أشخاص لم يعبروا حدوداً دولية بحثاً عن الأمان، ولكنهم أبقوا مهجرين داخل أوطانهم، أمّا اللاجئون فهم أشخاص يفرون من الصراع أو الاضطهاد، ويعترف بهم القانون الدولي ويحميهم، ولا يجب طردهم أو إعادتهم إلى أوضاع تعرض حياتهم وحريتهم للخطر.
وعلى غرار أمينة وثّق “مركز وصول لحقوق الإنسان” 41 حالة احتجاز لوثائق لاجئين سوريين في لبنان، بينها 15 حالة عام 2019. منها ثلاث حالات جماعية استهدفت موظفي منظمات المجتمع المدني، و26 حالة احتجاز أخرى، ما بين مطلع عام 2020 حتّى 15 أكتوبر/ تشرين الأول، منها أربع حالات لناشطين في المجتمع المدني. علماً أن 22 حالة الأخرى تعود لأشخاص مسجلين لدى مفوضية اللاجئين و13 حالة دخلت لبنان بطريقة نظامية.
وبطبيعة الحال، يؤدّي احتجاز الوثائق إلى حرمان اللاجئين من حق التنقّل داخل لبنان والسفر خارجه، إضافةً إلى عدم قدرتهم على العمل لإعالة أنفسهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّون بها، فضلاً عن عدم القدرة على إجراء معاملات الأحوال المدنية كتثبيت وقائع الزواج والطلاق وتسجيل الولادات الجدد.
استقبل لبنان أكبر عدد من اللاجئين السوريين مقارنة بعدد سكانه، ولأن لبنان غير موقّع على الاتفاقية الخاصّة بوضع اللاجئين، 1951 فلا قوانين تحمي حقوقهم.
ويخالف هذا الإجراء الذي اتخذته السلطات المحلية الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وأبرزها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” ووثيقة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” بشكل واضح وصريح، وقد تأسس الأمن العام اللبناني (وهو أحد الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية والبلديات اللبنانية)، عام 1921 باسم “المكتب الأول” وهو المعني الرئيسي بالتعامل مع قضايا اللاجئين القانونية في لبنان.
يقول المحامي اللبناني نبيل الحلبي رئيس المؤسسة اللبنانية للديمقراطية وحقوق الإنسان (لايف): “كل شخص لديه مخالفة ما، أو يعمل من دون “تصريح عمل” يكون مهدّداً بوضع إشارة الترحيل على أوراقه، حالما تم إلقاء القبض عليه على أحد الحواجز الأمنية، أو أثناء زيارته أحد مراكز الأمن العام، ولكن معظم القرارات غير منفّذة بسبب الضغوط على السلطات اللبنانية من قبل المنظمات الحقوقية، وبذلك يتحول ذلك الشخص إلى ضحية مخالفاً القانون بسبب القرارات المخالفة للقوانين المحلية والتزامات لبنان الدولية، ويصبح عرضة للاستغلال السهل على أي من الحواجز الأمنية بسبب تجريده من الوضع القانوني، في هذه الحالة الهشّة يسهل حرمانه من حقوقه ويصبح مقيماً بشكل غير مشروع وهارباً من القانون، وفي حال غادر لبنان فلن يستطيع العودة إليه إطلاقاً”.
الوضع المخيف يهدد اللاجئين السوريين في لبنان وعددهم 879 ألفاً و529 شخصاً مسجّلاً بحسب بيانات مفوّضية الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، وهم يشكّلون 15.8 في المئة من إجمالي عدد اللاجئين السوريين في العالم، ويتوزعون بشكل أساسي في مناطق البقاع والشمال.
خسائر ما بعد احتجاز الوثائق
وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR، فإن خطة الاستجابة للبنان 2017-2020 تسعى إلى توفير إطار استجابة متكاملة للتنمية الإنسانية، تلبي احتياجات اللاجئين – إلى أقصى حد ممكن – بناءً على القوانين والسياسات الوطنية.
لكن احتياجات أمينة، وحقها الأساسي في استعادة وثائقها الرسمية، ما زالت قيد التمنّي.
تتحدث عن مرحلة ما بعد احتجاز وثائقها: “طُلبت منّا عام 2020 مراجعة سرايا أميون وإحضار أطفالنا مع وثائقهم، بسبب قرار بترحيلنا إلى سوريا، إضافةً إلى ضرورة دفع مخالفة بـ3 ملايين ليرة لبنانية عن ابني البكر ذي العشرين عاماً”، وهناك تم تبصيم الأسرة على قرار الترحيل، وتم احتجاز وثائقها وإعادة جوازات السفر المنتهية مدّتها فقط.
تواصلت الأسرة مع “مفوضّية اللاجئين” التي أبلغتها بأن تغيّر سكنها، ففعلت ذلك، وقد خسر زوج أمينة عمله بسبب تغيير مكان سكنهم، وابنها البكر الذي تزوّج وانتقل للعيش في منزلٍ آخر، لم يعد قادراً على العمل بسبب حجز وثائقه الثبوتية، وتتابع أمينة: “ابني يعيش في منطقة وأنا في منطقة أخرى، ولا نستطيع رؤية بعضنا بسبب الخوف من الخروج، فأنا لم أره منذ خمسة أشهر”.
إضافةً إلى ذلك، كانت أمينة فقدت فرصة السفر إلى تركيا في 2015، بسبب سحب جواز سفرها وأسرتها وعدم قدرتها على استرجاع وثائقها المحتجزة، إذ كانت تنوي الوصول إلى أوروبا مع موجات اللاجئين السوريين التي غادرت من تركيا آنذاك. وتكمل السيدة: “ابني وزوجي كانا يعملان والآن فقدا عمليهما، حتّى أن ابني حصل على فرصة عمل في ميناء طرابلس ولكنّه خسرها لعدم حيازته أوراقاً ثبوتية”. حالياً، فقدت العائلة مصدر دخلها، وباتت تعيش في غرفة مساحتها 30 متراً، هي عبارة عن قبو في أحد المباني السكنية، مقابل الاعتناء بمدخل البناء وتنظيفه.
وفق مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان، يواجه اللاجئون مخاطر متزايدة في مجال الحماية، مع عدم وجود إقامة قانونية، ما من شأنه أن يؤدي إلى خطر الاعتقال والترحيل والطرد من السكن والعنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس وإساءة معاملة الأطفال. فيما تزداد الحاجة في مجال المساعدات الأساسية، لا سيما الصحة والمأوى والصرف الصحي.
الخسارة الأكبر جراء احتجاز الوثائق، تكبّدها الشاب حسن أحمد (28 سنة)، (اسم مستعار)، إذ فشل بتسجيل زواجه، وتسجيل ولادة ابنه الذي تخطى عمره السنة، فأصبح مكتوم القيد. حسن عسكري منشق عن الجيش السوري، عام 2019 ذهب لتسوية وضعه القانوني والتجديد من طريق نظام الكفالة ودفع 900 ألف ليرة لبنانية (600 دولار أميركي وقتذاك)، فاحتجز عناصر الأمن العام وثائقه الشخصية، وأعطوه أوراق مغادرة بحجّة أنّه دخل بطريقة “غير قانونية” إلى لبنان، وحتّى الآن لم يحصل على وثائقه.
بعد احتجاز وثائقه، تزوّج حسن وأنجب ابنه الأول بالتزامن مع محاولة استرداد وثائقه، طُلب منه دفع 400 ألف ليرة (265 دولاراً) ليستردّ أوراقه من الأمن العام، ولكن عليه مغادرة البلاد بعد ذلك!
يأمل حسن بالتوجّه إلى أربيل العراقية، ولكنّه يخشى من تنفيذ قرار “منع دخول” بحقّه إلى لبنان، ما يصعّب سفره خارج لبنان أو حتى تفكيره في ذلك.
يقول حسن: “زواجي غير مسجّل وابني أيضاً، لأن زوجتي دخلت إلى لبنان خلسة أيضاً، أخشى من التنقّل داخل لبنان خوفاً من إعادتي إلى سوريا لأنّني منشق عن الجيش”. تواصل حسن مع منظمات تُعنى بمتابعة شؤون اللاجئين السوريين، وذكر منها “المجلس النروجي” من دون أي نتيجة، كان لديه موعد مع قسم الحماية في مفوضية اللاجئين، ولكن تم تأجيله بسبب “كوفيد-19”.
450 حالة احتجاز وثائق
عدم حيازة اللاجئين أوراقاً ثبوتية يشكل تحدياً كبيراً في الوصول إلى الخدمات الأساسية والبسيطة، وقد يعرقل نشاطهم اليومي الأساسي، وتعددت أسباب حجز وثائقهم الرسمية منها الاعتقال، أو أثناء تجديد أوراق الإقامة من دون مسوغ قانوني رسمي، أو في المستشفيات بسبب عدم قدرة اللاجئين على دفع تكاليف علاج مرضاهم، وغيرها.
بحسب تقرير صادر عن “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” فإن السلطات اللبنانية نفّذت حملتي اعتقال في أيلول/ سبتمبر 2014 على مخيّمات عرسال، أوقفت خلالهما 450 لاجئاً سورياً، على مرحلتين بحجّة “الإرهاب” ثم أخلت سبيلهم بشكلٍ تدريجي.
كان بين المعتقلين، الشقيقان ماهر ومهند، وهما يعيشان في منطقة بعلبك. خلال اعتقاله، تعرّض ماهر للضرب والتعذيب بحسب قوله، فأصيب بـ”ديسك” (انقراص مفاصل العمود الفقري) في ظهره، ولم يعد قادراً على العمل. بعد التحقّق من براءته وبراءة شقيقه حجزت سلطات الجيش بطاقته الشخصية وبطاقة شقيقه وأطلق سراحهما. يقول ماهر: “طلب منّا الجيش مراجعة بلدية عرسال لاسترجاع بطاقتينا، وبعد يومين ذهبنا إلى البلدية التي نفت وجود البطاقتين لديها”.
راجع الشقيقان البلدية مرّات عدّة على مدار أشهر من دون جدوى، وفي نهاية المطاف قال أحد الموظفين هناك: “انسوها لهوياتكم”، مشيراً إلى أن الأوراق قد تكون فُقدت بين الجيش والأمن والبلدية. حاول ماهر مراجعة منظّمات من بينها مفوضية الأمم لشؤون اللاجئين، وكان لديه موعدٌ مع الأخيرة لتلقّي المساعدة كون حالته الصحّية متراجعة ولا يستطيع العمل، ولكن بسبب تفشّي “كوفيد-19” فشل الأمر.
ومنذ الحادثة عام 2014 حتّى الآن، تزوّج ماهر وأنجب أطفالاً ولكن لم يستطع تثبيت زواجه أو تسجيل أولاده، على رغم محاولة منظمات المساعدة بذلك، لكنّها فشلت لأنه بحاجة لوثائق إضافية من سوريا، وهو غير قادر على العودة أو حتى مراجعة السفارة السورية في بيروت، بسبب حاجز للجيش اللبناني على مدخل منطقة السفارة السورية، يضيّق على اللاجئين الذين يراجعون السفارة في أحيان كثيرة.
يوضح الشقيقان أن احتجاز بطاقتيهما الشخصيتين أسفر عنه عدم القدرة على استصدار جواز سفر، وعدم القدرة على مراجعة مفوضية الأمم المتّحدة، أو إيجاد فرص عمل بسبب صعوبة التنقّل بين الحواجز الأمنية للمناطق.
توضح “مفوضية اللاجئين” في ردٍ مكتوب على أسئلة معدي التحقيق، أنّها “تدعم المديرية العامة للأمن العام من خلال المعدات والبرمجيات وتجديد المراكز لزيادة قدرتها على معالجة طلبات تجديد الإقامة من اللاجئين السوريين، وتوفر المعدات والموظفين لمكاتب إدارة الأحوال الشخصية PSD في جميع أنحاء البلاد لزيادة قدرة مديرية الأمن العام على تسجيل الأحداث الحيوية للاجئين”.
وأضافت المفوضية، أنّها تقدم من خلال شركائها، المساعدة القانونية بما في ذلك الاستشارة والتمثيل، وتنظم جلسات توعية وحملات لتعزيز معرفة اللاجئين حول كيفية الحصول على الإقامة القانونية والوثائق المدنية للتصديق على المواليد والزواج والطلاق والوفيات التي حدثت في لبنان، وإجراءات الوصول المتعلقة بقضايا الأسرة، والعنف الأسري، والنزاعات المدنية أو الإدارية. إضافة إلى ذلك، تدعم المفوضية اللاجئين من خلال التسجيل نيابة عنهم في سجلات المواليد، دوائر الأجانب في المديرية العامة للأحوال الشخصية. وترافق مجموعات من اللاجئين إلى الأمن العام لتجديد إقاماتهم.
كما أشارت إلى أنّها تقدم مع شركائها استشارات قانونية فردية بشأن تسجيل المواليد والزواج والوفاة، وتقدم الدعم المباشر للأسر لتسجيل ولادة أطفالها على مستويي المديرية العامة للأحوال الشخصية ووزارة الخارجية والحصول على إثبات القرابة (اثبات النسب) من المحكمة الشرعية في حالات محددة. وتشمل المساعدة الحصول على إثبات بأثر رجعي للزواج لمن تزوجوا بشكل غير رسمي وتسجيل الزيجات والوفيات.
العودة “الطوعية” إلى سوريا
“إن ما يحصل ليس سحب وثائق، بل هو احتجازها لمدّة طويلة قد تصل إلى سنوات بشكلٍ متعمد، خصوصاً إذا كان على الشخص السوري إشارة أمنية، فيقوم “الأمن العام” باعتباره معارضاً ويريد السفر خارجاً ويتحدّث عما حصل معه في لبنان، وهي عملية تنسيق أمني بين السلطات اللبنانية والنظام السوري من أجل إعاقة حياة أولئك اللاجئين وجعل حياتهم إلى بائسة وإرغامهم في نهاية المطاف بطريقة غير مباشرة، على العودة إلى سوريا قسراً، تحت مسمّى “العودة الطوعية”، هكذا يفسّر المحامي اللبناني نبيل الحلبي، رئيس “المؤسسة اللبنانية للديموقراطية وحقوق الإنسان” (لايف) ما يحصل.
ويرى أن الغرض الرئيسي لاحتجاز الوثائق هو التضييق على اللاجئين السوريين في لبنان. وقال: “صدر بيان عن الخارجية النرويجية منذ أربع سنوات يتحدّث عن منع السلطات اللبنانية لاجئين سوريين من السفر إلى النرويج بعدما حصلوا على فرصة إعادة التوطين في بلد ثالث، وتكرر هذا الأمر مع لاجئين آخرين حين أتيحت لهم الفرصة لمغادرة لبنان متجهين إلى كندا أو بلدان أخرى”.
مخالفات قانونية
في ظل غياب نصوص قانونية محلية لبنانية حول سحب الوثائق الرسمية من المقيمين على الأراضي اللبنانية، إلّا أن لبنان ملزم بتطبيق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية مثل “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” و”العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، اللذين يحتويان على بنودٍ تكرّس حرية التنقل والحق في الشخصية القانونية للمقيمين على أراضيها بصرف النظر عن الأسباب التي دعتهم للخروج من بلادهم الأصلية.
وأعطت المادة السادسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 16 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحق لكل فردٍ، في أي مكان، بأن يعترف له بالشخصية القانونية، وتطرقت جميع الاتفاقيات الدولية التسعة الأساسية لحقوق الإنسان إلى الحقّ في الجنسية القانونية، فهو حقّ غير قابل للانتقاص، لا يمكن إلغاؤه أو تعليقه، حتّى في حالات الطوارئ.
تكتسب الشخصية القانونية من خلال التسجيل القانوني للفرد عقب وقوع حدث أساسي كالولادة أو الوفاة أو الزواج أو الطلاق، وهي من حقوق الإنسان الأساسية، إذ تسمح للفرد بالحصول على جنسية أو إقامة قانونية وعلى الحقوق والمزايا والمسؤوليات في بلده، وبالتالي فإن احتجاز الوثائق الرسمية من شأنه أن يمنع الشخص من ممارسة هذه الحقوق وبالتالي من تثبيت الزواج وتسجيل الولادات، كما يقيد وصوله إلى المساعدات الإنسانية والاستفادة من الخدمات الأساسية كالتعليم والطبابة، وفتح حساب مصرفي، ويزيد من خطر انعدام الجنسية.
وأكثر من ذلك، يؤثّر احتجاز الوثائق في حق التنقل، وفي هذا الصدد، أعطت المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حق التنقل لكل فرد وحق مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده والعودة إليه، في حين تضمن الفقرة الأولى من المادة 12 من “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية” حرية التنقل واختيار مكان الإقامة لكل فرد موجود على “نحو قانوني” داخل إقليم دولة ما.
دور مفوضية اللاجئين
من بين 41 حالة احتجاز وثائق، وثّقها مركز “وصول” لحقوق الإنسان هناك 37 شخصاً مسجلون رسمياً لدى “مفوّضية اللاجئين”، وعلى رغم ذلك لم تتدخّل الأخيرة لفعل شيء وفق مقابلات مع لاجئين، علماً أن التسجيل في المفوضية يعني أن اللاجئ أصبح تحت حمايتها.
وفي هذا الصدد، يقول الحلبي: “تتفاقم المشكلة عندما يكون اللاجئ السوري الذي تُحتجز أوراقه غير مسجّل في مفوضية اللاجئين، وبالتالي لا يستطيع مكتب الحماية التابع للمفوضية التدخّل، ولا يملك أي مرجعية من قبل المفوضية، حتى وإن أحالت المنظمات الحقوقية حالات اللاجئين إلى المفوضية فهي لا تستطيع القيام بأي تحرّك من دون أن يكون اللاجئ مسجّلاً لديها”.
ويحث الحلبي، المجتمع الدولي ومفوضية اللاجئين على التحرّك إزاء حالات احتجاز الوثائق، حتّى لو كان الأشخاص غير مسجّلين في المفوضية، وبالتالي على المفوضية أن تتحرك وتراجع السلطات، لأن احتجاز الأوراق ينعكس على الحقوق كلها، حق التنقل وحق العمل ضمناً، لا سيما أن مصادرة الأوراق غير محددة المدة مردفاً: “إذا أردنا التسليم بمشروعية ما تقوم به الأجهزة الأمنية اللبنانية، فإن الاحتجاز يجب أن يكون محدّد المدّة وإلّا فإن ما يحصل هو “تعسّف باستخدام الحق”.
ويرى المحامي اللبناني محمد عراجي رئيس مجلس إدارة مركز “وصول” أن ما تستطيع المفوضية فعله هو أنّها تقوم بإعداد بروتوكول مع الأمن العام اللبناني لمعالجة ملفات حجز المستندات الرسمية للأشخاص الذين ليست لديهم مشكلات أمنية، على أقل تقدير يتم منحهم إقامة لمدّة ستة أشهر ريثما يتم البت بوضع وثائقهم.
وشدّد “عراجي” على ضرورة أن تجري المفوضية دراسة ميدانية عن أوضاع السوريين لمعرفة نسب الأشخاص المخالفين وحاملي الإقامة ما يمكّنهم من العمل مع الأمن العام على حل مشكلاتهم.
المفوّضية كانت ذكرت مطلع العام الحالي أن “من أولوياتها الرئيسية لعام 2020، ضمان حصول اللاجئين على الحماية والإقامة القانونية الموقّتة وتوثيق المواليد والأحوال المدنية والحماية من الإعادة القسرية”.
تواصل معدّا التحقيق مع “مفوضية اللاجئين” وطرحا عليها مجموعة أسئلة حول موقفها من احتجاز الوثائق، والخطوات التي تقوم بها في مواجهة هذه المخالفة، إضافةً الى التدابير التي تتخذها لضمان قيام الأشخاص المحتجزة وثائقهم بتسجيل معاملات الأحوال المدنية، وضمان دخولهم إلى المستشفيات والحملات التي تقوم بها مع الحكومة اللبنانية لضمان الالتزام بالقوانين الدولية.
وجاء في الرد، “إذا لفت اللاجئون انتباهنا الى أمر كهذا، على سبيل المثال البرامج القانونية، فسنقوم بالتدخل لدى السلطات. واستجابة للمناصرة المستمرة من طرف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أصدر الأمن العام مذكرة داخلية تطالب بموجبها جميع المراكز بعدم أخذ المستندات الأصلية (بطاقات الهوية، وجوازات السفر، واخراج قيد مدني، وتأشيرات الدخول والخروج) من السوريين عند تجديد إقاماتهم، وطلب بدل ذلك نسخاً ملونة عن الوثائق الأصلية. ويضمن هذا القرار عدم احتفاظ الأمن العام بأي وثيقة تعريف شخصية، وذلك حتى في حالة رفض طلب الإقامة. كما يعمل أيضاً على توفير أساس قوي للتدخل في حال استمرار ممارسة هذا الأمر.
وأوضحت المفوّضية، أنّها تجري حواراً مستمراً مع مديرية الأمن العام على المستويين المركزي والمحلي لمعالجة أي ممارسات غير متسقة وضمان مواءمة هذه الممارسات.
وفي ردٍ على سؤال حول نوع تدخّل المفوّضية في حال انتزاع وثائق اللاجئين قالت: “عند مصادرة الوثائق من قبل الأفراد (أصحاب الأراضي، أرباب العمل، إلخ …) أو المؤسسات الخاصة (المستشفيات)، تتدخل المفوضية مباشرة أو من خلال شركاء قانونيين، وتتوسط مع هؤلاء الأطراف لضمان إعادة هذه الوثائق بالنسبة للحالات المحددة التي تفشل فيها الوساطة، يمكن اتخاذ إجراء قانوني آخر مثل إرسال إشعار قانوني أو رفع القضية إلى سلطة أعلى مثل وزارة الصحة العامة في حالة المستشفيات”.
وفي حالة مصادرة الوثائق أو الاحتفاظ بها من قبل السلطات، تقوم المفوضية وشركاؤها إما بمساعدة اللاجئ على استرداد وثائقه، باتباع العمليات الإدارية الحالية على سبيل المثال في GSO أو المناصرة على المستوى الإقليمي أو المركزي مع السلطة المختصة لهذا الغرض
عدم حيازة اللاجئين أوراقاً ثبوتية يشكل تحدياً كبيراً في الوصول إلى الخدمات الأساسية والبسيطة، وقديعرقل نشاطهم اليومي الأساسي.
وفي ما يخص مواصلة التعليم للأطفال الذين احتُجزت وثائق عائلاتهم أوضحت المفوضّية أنّ الأطفال الذين لا يملكون وثائق هوية، بإمكانهم التسجيل في المدرسة بشرط أن تكون لديهم إفادة سكن من المختار، أو شهادة تسجيل من المفوضية.
وأشارت إلى أنّها تجري نقاشاتٍ مستمرة مع الحكومة اللبنانية، بدعم من المجتمع الدولي ووكالات الأمم المتحدة الأخرى والمجتمع المدني لضمان احترام مسؤوليات لبنان الدولية وتنفيذ القوانين المحلية.
كما تواصل معدّا التحقيق مع الأمن العام اللبناني عبر البريد الإلكتروني الرسمي، وطرح عليه أسئلة، مثل أسباب احتجاز الوثائق للاجئين السوريين، وآلية استرجاع هذه الوثائق، إضافةً لأسئلة تتعلق فيما إذا كان الأمن العام يسهّل استرداد الوثائق للاجئين الراغبين بالسفر خارج لبنان، أو منح اللاجئين وثائق بديلة تخوّلهم دخول المستشفيات أو تسجيل واقعات الزواج والطلاق والولادات، كما أحال الأسئلة مباشرةً إلى البريد الإلكتروني الخاص بدائرة حقوق الإنسان والمنظمات والهجرة، ولكن لم يتم الرد.
في هذه الأثناء، لا تزال أمينة تنتظر مع عائلتها بفارغ الصبر استعادة وثائقها حتى تتمكن من لقاء ابنها الذي يعيش بعيداً منها منذ سنوات. حالها كحال الشاب حسن أيضاً، الذي يأمل باسترجاع أوراقه ليتمكن من تسجيل زواجه، وابنه أيضاً في سجل الولادات لاستكمال إجراءات التسجيل حتى يكبر ومعه بطاقة هوية شخصية.
أنجز هذا التحقيق بالشراكة بين الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – “سراج”، ومركز “وصول” لحقوق الإنسان“، وبدعم من FPU Free Press Unlimited، ونُشر بموقع “درج ميديا“
شارك في التحقيق وجمع البيانات: مارييل الحايك – باحثة في مجال حقوق الإنسان/ عيد الخضر – ناشط حقوقي