توصّل تحقيق لـ”سراج-الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية”، ضمن “أسرار قبرص”، إلى كواليس عمليات طباعة النقود السورية في روسيا، الاستراتيجيّة التي لجأ إليها النظام السوري، بسبب حاجته الواضحة الى السيولة النقدية لتغطية النفقات، ما يؤدي إلى عجز متكرر في الميزانية عاماً بعد عام. استُخدمت الأموال الناتجة من طباعة الأوراق النقدية في المقام الأول، لدفع رواتب العسكريين والمدنيين، فضلاً عن نفقات الدولة الروتينية.
نُقلت الأموال عبر طائرة شحن من طراز إليوشن 76 التي تديرها مؤسسة الطيران السوري، بثماني رحلات ذهاباً وإياباً بين موسكو ودمشق، بما مجموعه 240 طناً من الأوراق النقدية خلال فترة 10 أسابيع في عام 2012. أدى استمرار طباعة النقود من دون غطاء إنتاجي أو احتياطي من العملات الأجنبية أو الذهب، إلى تضخّم كبير وانخفاض قيمة الليرة السورية وانهيارها. اعتباراً من عام 2023، يعيش حوالى 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، ويحتاج الملايين إلى المساعدة الإنسانية، إذ يواجهون انعدام الأمن الغذائي ويحتاجون إلى الرعاية الصحية. تعتمد السياسة المالية بشكل كبير على طباعة مبالغ كبيرة من المال، ما يساهم في ارتفاع معدلات التضخم. وتشير الأرقام إلى زيادة حادة في الأموال التي ضُخَّت في السوق على مر السنين، ما أدى إلى تفاقم التحديات الاقتصادية.
بداية العام 2012، كانت الحرب في سوريا تدخل منعطفاً جديداً مع استمرار النظام السوري حملته العسكرية ضد المعارضة التي باتت تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد، وقبل أن يتم الطلب رسمياً من روسيا للتدخل مباشرة إلى جانب النظام السوري في معركته وجبهاته المفتوحة لقلب موازين القوى لصالحه بعد عام تقريباً بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
في مسار موازٍ، كانت العقوبات الاقتصادية الغربية التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2011 على شخصيات اقتصادية وسياسية، بمن في ذلك رئيس النظام بشار الأسد وأفراد أسرته، قد أضعفت مركز النظام المالي بشدة.
آنذاك، كان اعتماد النظام السوري على النقود الورقية (BankNotes) لتيسير معاملات ودفع رواتب الموظفين الحكوميين والإنفاق العام بشكل عام، أمراً ضرورياً في تعويد نفسه على نظام العقوبات ضده.
وسط ذلك، بدأ النظام السوري بتشكيل خلية جديدة تساعده على رفد خزينة البلاد بالأموال “الكاش” أوائل العام 2012.
قبل 2011، كان النظام السوري يطبع العملات السورية (الورقية والمعدنية) بالتعاون مع إحدى الشركات التابعة للبنك المركزي في النمسا، لكنها توقفت بسبب العقوبات.
دفع الوضعان الاقتصادي والمالي النظام الى اتخاذ إجراءات فورية، وكان أحد هذه الإجراءات عملية طباعة كميات من النقود، إذ استخدمت شركتان في جزيرة قبرص لتسهيل عمليات الطباعة. على الرغم من التأكيدات الحكومية بأن هذه الخطوة لن تؤثر على الوضع الاقتصادي، إلا أن هناك غموضاً كبيراً يحيط بتفاصيل هذه العملية.
جاءت عملية الطباعة عام 2012 فيما كانت الحكومة السورية في حاجة متزايدة الى الأموال النقدية (السيولة الكاش) للإنفاق الحكومي الجاري وتمويل الجهود العسكرية ودفع رواتب الموظفين الحكوميين، بما فيها أجور قوات الأمن والجيش.
يقول باحث اقتصادي مطّلع على مسارات عمليات الطباعة: “سياسة النظام المالي الحالي تعتمد على العجز المالي، ويُعتقد أن هذه السياسة هي السبب وراء اللجوء إلى طباعة النقود بعد نفاد الاحتياطي النقدي الأجنبي البالغ 20 مليار ليرة سورية في عام 2011. هذا الاتجاه أدى إلى تقليل العملات الأجنبية في الأسواق، والتي كانت خارج نطاق السيطرة الحكومية في مناطق شمال سوريا وشرقها”.
في ذلك الوقت، كانت الموازنة العامة للدولة 27 مليار دولار، وهي الأكبر في تاريخ البلاد، إلّا أنّها ستنحدر لاحقًا بسبب استمرار الحل الأمني وتصاعد مفاعيل العقوبات الدولية على النظام، فضلاً عن انعدام الوارد المالي من الصادرات التي تشكّل 25 في المئة من الموازنة العامة للحكومة لتصل إلى مبلغ 16550 مليار ليرة سورية (نحو 5.489 مليار دولار وفق سعر الصرف الرسمي).
يكشف التحقيق عن كواليس عمليات طباعة النقود السورية بإشراف من البنك المركزي السوري، من خلال استخدام نفوذ وخدمات تقدّمها شركتان تتخذان من جزيرة قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، مقرًا لهما ويملكهما رجل أعمال سوري – روسي، وصفته وزارة الخزانة الأميركية بناءً على قرار العقوبات – الأمر التنفيذي رقم 13582 بتاريخ 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، والذي حصل عليه فريق التحقيق في إطار مشروع “أسرار قبرص”، الاستقصائي الدولي، بإشراف الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين (ICIJ)، ومؤسسة Paper Trail Media بالتعاون مع سراج و68 شريكاً إعلامياً حول العالم.
يصف المستشار الاقتصادي، ورئيس مجموعة عمل اقتصاد سوريا، الدكتور اسامة القاضي، أنه وعندما تنخفض قيمة العملة، يجد المصرف المركزي نفسه مضطرًا إلى طباعة كميات كبيرة من النقود (BankNotes) لتغطية التضخم المتزايد وزيادة الأجور.
“أسرار قبرص” (Cyprus Confidential secrets)
يكشف هذا التحقيق، وهو من ضمن تحقيقات أسرار قبرص Cyprus Confidential secrets الذي أجراه الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين و68 شريكاً إعلامياً، من بينهم الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، كيف مكنت شركات الخدمات المالية التي يوجد مقرها في قبرص النخبة الروسية – بما في ذلك الدائرة الداخلية للرئيس فلاديمير بوتين – من حماية ثرواتهم، وبعد ذلك، مع غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، حماية أصول بمليارات الدولارات، من التهديد بفرض عقوبات وشيكة.
وجد تحليل الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين لأكثر من 3.6 مليون وثيقة مسرّبة، أن ما يقرب من 800 شركة وصندوق ائتماني مسجلة في ولايات قضائية سرية مملوكة أو خاضعة لسيطرة الروس الذين فُرضت عقوبات عليهم منذ عام 2014.
كما كشف التحقيق الدولي الذي شاركت فيه وحدة سراج أيضاً، عن تبادلات بين نظام الرئيس السوري بشار الأسد ووسيط مسجل في قبرص بشأن شراء معدات حفر النفط الأميركية في ذروة الحرب الأهلية السورية – على الرغم من العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة في تلك الفترة.
وتشمل تلك الشركات أكثر من 650 شركة وصندوقاً قبرصياً، من بينها الشركات الأم للممتلكات الروسية؛ الشركات التابعة للتكتلات الروسية؛ والكيانات الغامضة المستخدمة لإخفاء الاستثمارات في العقارات واليخوت والأعمال الفنية المشهورة عالمياً.
تمويل جهود الأسد العسكرية
في صيف عام 2012، كانت شركة “جوزناك”، وهي الشركة الحكومية التي تدير دار سك العملة في روسيا وتمتلك حقوقًا حصرية في تكنولوجيا الطباعة، أجرت عملية طباعة أوراق نقدية سورية جديدة بوزن يبلغ 240 طناً. وقتها، تمت هذه العملية في سرّية تامة.
وبحسب خبراء، جاءت عملية الطباعة فيما كانت الحكومة السورية في حاجة متزايدة الى الأموال النقدية (السيولة الكاش) للإنفاق الحكومي الجاري وتمويل الجهود العسكرية ودفع رواتب الموظفين الحكوميين بما فيها أجور قوات الأمن والجيش.
وفقاً لوثائق “أسرار قبرص”، التي حصلت عليها وحدة سراج، من بينها الأمر التنفيذي الصادر عن الخزانة الأميركية رقم 13582، فإن النظام السوري اعتمد على شركات ووسطاء لطباعة الأوراق النقدية في موسكو في عام 2012 لتفادي العقوبات الدولية المفروضة عليها، وهو ما يعتبر انتهاكاً لعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي “وقانون قيصر”.
وقّع “قانون قيصر” في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بهدف فرض عقوبات على النظام السوري وأفراد مرتبطين به، بمن في ذلك الكيانات التي تدعم نشاطاته. يستهدف القانون صناعات معينة مثل الطيران وإنتاج النفط والغاز والبنك المركزي وعمليات طباعة الأموال.
في هذه الأثناء، كان الأداء الاقتصادي لحكومة النظام السوري يتعرض لمزيد من الضغوط بسبب تراكم العجز المالي والعقوبات، وعليه ارتفعت مستويات التضخم إلى 238 في المئة في عام 2023، وهذا لم يترك للنظام بدّاً من التفكير بطباعة العملات لتمويل العجز.
بحسب الوثيقة وأمر الخزانة الأميركي، فإن شركتين مسجلتين في قبرص شكلتا واجهة تنفيذية للنظام السوري عام 2014 وساعدتا في تيسير عملية طباعة الأوراق النقدية، هي بیروسیتي المحدودة للمشاریع Piruseti Enterprises LTD وفرومینیتي للاستثمارات المحدودة Frumineti Investments LTD، إضافة إلى شركة لبنانية.
يقول جهاد اليازجي، وهو محلل اقتصادي سوري: “يُستخدم لبنان أكثر كواجهة، أو هناك سوريون يتفقون مع لبنانيين ويفتحون شركات مشتركة نتيجة تاريخ العلاقات اللبنانية – السورية، إضافة إلى العلاقات الاجتماعية العائلية، أي هناك علاقة قوية بين المجتمعين، فليس من الصعب لجماعة النظام أن يكون لديهم شركاء لبنانيون، يعملون لهم كواجهة، وهذه الحالة كنّا نراها كثيراً منذ الـ 2011 وحتى 2018-2019، ولكن نلحظ انخفاضاً كبيراً لهذه الظاهرة بعد الانهيار اللبناني لأن الكثير من الأشخاص خسروا ودائعهم في لبنان”.
يتقاطع حديث يازجي مع تقارير تكشف أنّ الدولة اللبنانية توقفت شكلياً نتيجة العقوبات الغربية على النظام السوري، عن التعامل مع النظام السوري بشكل رسميّ، إلّا أنّ “لبنان يُعتبر المكان الرئيسي لتفادي العقوبات، إذ تبعد بيروت مسافة ساعتين فقط عن دمشق، حيث يسيطر على الحدود السورية – اللبنانية حلفاء نظام الأسد، فضلاً عن مطار وموانئ لبنانية”. فتذكر الدراسة كيف يساهم “مزيج من الفساد والتحالفات بين نظام الأسد وبعض الأحزاب اللبنانية، مثل “حزب الله”، في تسهيل عمليات التهريب بين البلدين”.
ويتضمن القرار التنفيذي الصادر عن “الخزانة الأميركية”، أحد أسرار عملية طباعة الأوراق النقدية، التي باتت محط تساؤل وتخوّف في الشارع السوري، الذي يرزح تحت وطأة غلاء الأسعار وتضاعف التضخّم بالتوازي مع بلوغ العمليات العسكرية بين النظام السوري وفصائل المعارضة المسلّحة ذروتها.
اعتباراً من كانون الثاني/ يناير 2014، الذي سبق التدخّل العسكري الروسي المباشر بأمر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعام تقريباً، وُضعت مسودة عقد بين مطبعة العملات جوزناك ومقرها روسيا وشركة فرومينيتي، حيث ستقوم جوزناك بطباعة مئات الملايين من الأوراق النقدية المقوّمة بالليرة السورية بقيمة الف ليرة سورية.
لاحقاً، وبحلول العام 2021 حينما كان النظام السوري يمهد لعمليات طباعة أوراق نقدية جديدة من فئة الألفي ليرة، اعترف مصرف سوريا المركزي بهذه العملية وبعمليات طباعة أخرى، إذ أكد أنه قام بطباعة أوراق نقدية جديدة ووضعها في التداول من فئات ( 50 – 100 – 200 – 500 – 1000 – 2000) ليرة سورية وأوراق نقدية من فئة (2000) ليرة سورية عام 2015، وتم وضعها في التداول في النصف الثاني من 2017.
كانت هذه المرة الأولى التي يُجبر فيها النظام السوري علي الاعتراف بطباعة الأوراق النقدية لسد العجز بعد اندلاع الاحتجاجات ضدّه، بحسب ما قال خبراء اقتصاديون في تصريحات متطابقة لفريق التحقيق.
يقول المستشار القاضي: “النظام السوري قام بطباعة أموال نقدية في 2021 في مكان ذي صلة، حيث تمت طباعة 3 تريليونات ليرة سورية عام 2012 في روسيا. يتطلب ذلك تأمين كميات هائلة من الليرة السورية، وهو ما يؤدي إلى زيادة التضخم بسبب انخفاض إنتاج السلع والخدمات”.
الجبهات المالية للنظام السوري
سبق توقيع العقد بين جوزناك الروسية والبنك المركزي السوري، إصدار بنك Tempbank الروسي المعاقب من الولايات المتحدة، في أواخر عام 2012، خطاب اعتماد بأمر من شركة “بیروسیتي” القبرصية نيابة عن البنك المركزي السوري.
لعبت هذه الشركة سابقاً أدواراً مماثلة لتيسير معاملات الحكومة السورية عبر البنك المركزي السوري المعاقب، ففي تموز/يوليو 2013، شارك مسؤولون مصرفيون وتجاريون سوريون في دفع شركة “بيروسيتي” سنداً إذنياً بقيمة تعادل أكثر من 4 ملايين دولار لشركة طاقة أوروبية. وقام بنك روسي، نيابة عن شركة بيروسيتي، بدفع سند إذني لشركة الطاقة، حيث عملت شركة “بيروسيتي” نيابة عن البنك المركزي السوري لبدء هذه الصفقة وفق أمر العقوبات الصادر عن الخزانة الأميركية. لكن، للعثور على مالكي الشركات القبرصية التي ساعدت في تيسير العملية، دقق فريق التحقيق في سجل الشركتين القبرصيتين.
العمل السري للشركات الوهمية
تلعب الشركات الواجهة دوراً حيوياً في تسهيل أعمال المؤسسات و الحكومات والأنظمة المعاقبة دولياً، مثل النظام السوري، وتقوم بذلك عن طريق توفير واجهة قانونية وتجارية للعمل مع السوق الدولية، على رغم التحفظات القائمة على هذه الحكومات، وعادةً ما تعمل هذه الشركات بطرق معقدة وغير شفافة، ما يسهل على الحكومات المعاقبة تحقيق أهدافها من دون جذب الانتباه الدولي.
يتيح موقع open corporates لتسجيل الشركات، وهو قاعدة بيانات دولية، المزيد من المعلومات عن هاتين الشركتين القبرصيتين ومديرهما رجل الأعمال المولود في سوريا والذي يحمل الجنسية الروسية عيسى الزيدي، الذي عاقبته وزارة الخزانة الأميركية في عام 2014، وشملت العقوبات حظر الممتلكات وتجميد الأصول، بحسب وزارة الأمر التنفيذي 13582 الصادر عن الخزانة الأميركية، كما عوقبت كلا الشركتين اللتين يمتلكهما في العام نفسه.
تخرج عيسى الزيدي عام 1964 في جامعة بومان التقنية الحكومية في موسكو، درس الهندسة ويعتبر المالك والرئيس التنفيذي لشركات صغيرة عدة، “لا تملك أي رأس مال يذكر”، كانت لديه علاقة دولية بمركز الدراسات والبحوث العلمية، الذي يُعتقد أنه الجهاز الحكومي السوري المسؤول عن تطوير وإنتاج الأسلحة غير التقليدية والصواريخ الباليستية، وفقًا لمكتب الخزينة الأميركية لمراقبة الأصول الأجنبية (OFAC).
وجّه فريق التحقيق أسئلة إلى عيسى الزيدي، لمعرفة دوره في عملية طباعة العملة عبر شركتيه القبرصيتين بناءً على ما أوردته وزارة الخزانة الأميركية في نص الأمر التنفيذي 13582، والبنك المركزي السوري وشركة جوزناك، للحصول على حق الرد، لكنهم لم يردوا على الاستفسارات الموجّهة إليهم.
تم حل الشركتين القبرصيتين في 2016 على رغم أنهما ومؤسسهما على لائحة العقوبات الأميركية.
الأوراق النقديّة السورية الجديدة وطرق تحويلها
بحسب الخبير الاقتصادي الدكتور كرم شعار، فإن أهم العوامل التي دفعت النظام السوري الى طباعة الأوراق النقدية، هو الحاجة الكبيرة الى السيولة النقدية لتغطية النفقات، وهو ما انعكس على شكل عجوزات دورية في الموازنات السورية خلال السنوات الأخيرة.
يقول: “الموارد المخصصة للإنفاق كانت أقل بكثير من المطلوب. وهكذا، تمت طباعة مبالغ إضافية لسد هذا العجز جاءت غالبيتها تحت بند “المأخوذ من الاحتياطي” في الموازنة.
يتم تقسيم النفقات في الموازنة في كل عام إلى جارية واستثمارية، إذ تشمل النفقات الجارية المصاريف المستمرة مثل الرواتب والتقاعد والإنفاق الإداري.
يقول شعار، وهو الزميل الأول في معهد نيو لاينز لفريق التحقيق، إن “الأموال التي تمت طباعتها تُضخّ في السوق بالدرجة الأولى عبر دفع الرواتب سواء رواتب للعسكريين أو للمدنيين إلى جانب الاحتياجات الروتينية للدولة في مجال المصاريف اليومية”.
كيف نُقلت الأوراق النقدية الجديدة إلى دمشق؟
نفى البنك المركزي السوري وجود أي عملية نقل للأموال في عام 2012، كما أكد أن الأموال الجديدة المتداولة من فئة 5 آلاف ليرة سورية، تهدف الى استبدال الأوراق النقدية التالفة أو البالية فقط وليس لها تأثير على الاقتصاد.
وتظهر سجلات الرحلات الجوية التي حصلت عليها وحدة سراج، أطناناً من الأوراق النقدية التي تم نقلها على متن رحلات جوية بين موسكو ودمشق. UUWW هو رمز المطار لمطار فنوكوفو، ثالث أكبر مطارات روسيا ازدحاماً. في حين أن الرحلات الجوية المتجهة إلى موسكو تدرج أيضاً الأوراق النقدية، فإن جميع السجلات تحدد “Cargo From UUWW”.
بحسب الوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق، نقلت طائرة حكومية سورية ما مجموعه 240 طناً من الأوراق النقدية من موسكو إلى دمشق على مدى 10 أسابيع، تبدأ في تموز وتنتهي في أيلول 2012.
تشير الوثائق إلى أن طائرات الشحن من طراز Ilyushin-76 التابعة لسلاح الجو السوري، نفذت ثماني رحلات ذهاب وإياب بين مطار دمشق الدولي و مطار “فينوكوفو” في موسكو، حيث نقلت 30 طناً من أوراق البنك في كل رحلة عائدة إلى سوريا. تمتلك هذه السجلات نسخاً باللغتين العربية والإنكليزية، بالإضافة إلى نسخ من طلبات العبور المرسلة إلى إيران باللغة الفارسية.
في كل مرة تُدرج فيها “الأوراق النقدية” ضمن قائمة البضائع التي تحملها، كانت الطائرة تسافر في طريق غير مباشر. وبدلاً من التحليق مباشرة فوق المجال الجوي التركي، كما فعلت الطائرات المدنية، تجنبت طائرة الشحن Ilyushin-76 إليوشن 76، التي تديرها القوات الجوية السورية، تركيا وحلقت فوق العراق وإيران وأذربيجان.
على مدى 10 أسابيع من 9 تموز لغاية 15 أيلول 2012، كانت الحكومة السورية على عجلة من أمرها وفي حاجة ماسة إلى الأموال (الكاش)، فقد طلبت وزارة الخارجية السورية عبر مكتب الوزير في ثماني برقيات مستعجلة، حصل فريق التحقيق على نسخة منها باللغات العربية والإنكليزية والفارسية، إلى مكتب السفير السوري في طهران، مخاطبة السلطات الإيرانية المختصة للحصول على إذن عبور (إيران – ذهاباً وإياباً) لطائرة الشحن السورية اليوشن (Ilyushin) روسية الصنع IL-76T، المسجلة تحت الرقم YK-ATA والمنفذة للرحلات (دمشق – موسكو- دمشق).
إحدى البرقيات، يطلب فيها مكتب وزير الخارجية والمغتربين الحصول على إذن من الإيرانيين للسماح بعبور الأجواء الإيرانية للرحلة الجوية الأولى ذهاباً وأياباً رقم (4421/4422) بتاريخ 13 أيلول 2012، والثانية ذهاباً وإياباً رقم (4423/ 4424) بتاريخ 15 أيلول 2012.
يفترض لهذه الرحلات المتتابعة عبر طائرة اليوشن السورية، أن تنقل النقود السورية المطبوعة، لأن كتاباً ملحقاً بهذه البرقية باللغات الثلاث الموجهة من الوزارة الى السفارة، أظهر أن هذه الرحلات ستنقل 30 طناً من الأوراق النقدية من موسكو الى دمشق.
علاج التضخم بطباعة ورقة الـ5000 الجديدة
في عام 2019، عاد النظام السوري وطبع أوراقاً نقدية جديدة من فئة خمسة آلاف ليرة سورية، دخلت التداول عام 2021.
الأوراق النقدية الجديدة من فئة 5000 ليرة سورية (تعادل نصف دولار أميركي) جاءت لمواجهة آثار التضخم التي حدثت خلال السنوات الماضية بحسب بيان للمصرف.
وأشار البيان إلى أن طباعة هذه الأوراق النقدية جاء “لتلبية توقعات احتياجات التداول الفعلية من الأوراق النقدية وبما يضمن تسهيل المعاملات النقدية وتخفيض تكاليفها ومساهمتها في مواجهة آثار التضخم التي حدثت خلال السنوات الماضية، إضافةً إلى التخفيض من كثافة التعامل بالأوراق النقدية بسبب ارتفاع الأسعار خلال سنوات الحرب”.
يقول الدكتور عبد الحكيم المصري الذي يشغل منصب وزير الاقتصاد والمالية في “الحكومة السورية المؤقتة”، لفريق التحقيق: “مع استمرار العجز، يطبع النظام السوري أوراقاً نقدية جديدة في موسكو منذ العام 2012 وإلى اليوم من دون وجود تغطية إنتاجية أو احتياطي من العملات الأجنبية أو الذهب، وهو ما تسبب في تضخم كبير وانخفاض في قيمة الليرة وانهيارها، إذ لم تترافق مع وجود إنتاج أو احتياطي من العملات الصعبة والذهب.
بحسب موقع coin update، المتخصص بنقل الأخبار والمعلومات حول العملات في العالم، فإن الأوراق النقدية الجديدة، المؤرخة عام 2019، تم إنتاجها من المنشأة الأمنية للطباعة ذاتها، “جوزناك”، وهي مطبعة تابعة للدولة في روسيا بناءً على طلب البنك المركزي السوري.
الورقة النقدية فئة 5000 ليرة سورية مؤرخة بعام 2019 على كلَي الوجهين، وتمت طباعتها بتقنية محفورة على ورق أمني يحمل علامة مائية قطنية. وتتمتع الأوراق النقدية وفق مصرف سوريا المركزي بمزايا أمنية عالية يصعب تزويرها أو تزييفها ويسهل تمييزها.
وقال خمسة مصرفيين، منهم خبراء يُديرون ويُشرفون على بنوك في سوريا والدول العربية، بينهم مسؤول سابق في البنك المركزي السوري، لوحدة الصحافة الاستقصائية السورية “سراج”، إن العملة الورقية الجديدة التي طُبعت في عام 2019 من فئة 5 آلاف ليرة سورية، تمت طباعتها في موسكو.
ولم يرد المسؤولون السوريون والروس على أسئلة معدّي التحقيق، حول عمليات الطباعة.
غالباً ما يكون لطباعة الأموال من دون رصيد ضرر كبير على الاقتصاد الذي يعاني أصلاً من موت سريري منذ العام 2011. ويتوقّع جوزيف ضاهر، وهو أستاذ جامعي سوري- سويسري في جامعة لوزان، أن يرتفع العجز في العام الحالي للموازنة السورية من 4.86 تريليون ليرة سورية (ما يعادل 1.62 مليار دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي في هذه الفترة) إلى 9.5 تريليون ليرة سورية (ما يعادل 800 مليون دولار أميركي). ويمثّل ذلك انخفاضاً بالقيمة الحقيقية بنحو 51 في المئة. وفي السنوات السابقة، كان يتم تمويل العجز نقداً من الاحتياطيات، التي تمثّل غالباً الأموال التي طبعها مصرف سوريا المركزي، والقروض المحلية من خلال سندات الخزينة والقروض الخارجية.
وقال ضاهر الذي ينسق مشروع أبحاث سوريا ضمن برامج “مسارات الشرق الأوسط” في مقابلة مع فريق التحقيق: “لتغطية هذا العجز في الميزانية السورية، كانت الطباعة السرية للنقود وسيلة مهمة لتحويل الأموال المطبوعة لتلبية الاحتياجات الروتينية للدولة في مجال الرواتب والمصاريف اليومية الحكومية والعسكرية”.
عجز مالي وتدهور في أوضاع المعيشة
في العام الحالي 2023، كان حوالى 90 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية بحسب تقرير صدر في شهر حزيران/ يونيو عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي. وبين عامي 2018 و 2019، ارتفع عدد من يعانون من انعدام الأمن الغذائي من 6.5 مليون إلى 7.9 مليون، فيما يحتاج 13.2 مليون إلى الرعاية الصحية.
وفقًا لجدول الموازنة السنوية السورية، تُظهر الجداول تزايداً في الإسمية من عام 2010 إلى عام 2021 بالليرة السورية ، وانخفاضاً كبيراً في قيمة الدولار، وهو ما يمكن أن يعزز التضخم ويؤدي إلى تدهور أوضاع المواطنين المعيشية. وقال الباحث شعار: “تشير الأرقام إلى أن السياسة المالية تعتمد على طباعة كميات كبيرة من النقود، إذ بلغ المبلغ الذي تم ضخه في السوق نحو 6 مليارات ليرة سورية في عام 2012، و1.4 مليار ليرة سورية في عام 2019.
ويعتبر هذا الإجراء السبب الرئيسي وراء التضخم المتزايد، ما يؤثر سلباً على وضع المواطنين المالي والاقتصادي.
وتجاوز معدل التضخم في سوريا 16 ألفاً بالمئة، في الفترة الممتدة بين عامي 2011 – 2023، وفقاً للكتاب السنوي للمكتب المركزي للإحصاء. وقدرت وزارة المالية معدلات التضخم للعام 2022 بـ100.7 بالمئة، وعام 2023 بـ 104.7 بالمئة، بحسب البيانات الصادرة عنها، وبالتالي فإن معدل التضخم بين عامي 2011 – 2023 يبلغ 16137.32 بالمئة.
ويعتقد خبراء أن سبب هذا التضخم الرئيسي هو عمليات طباعة الأموال، إذ إن كل عملية طباعة ينتج منها تضخم (غلاء الأسعار) وانخفاض في قيمة العملة المحلية.
وفي رأي الباحث شعار، فإن استمرار التجاوز عن الميزانية العامة يؤدي إلى عجز مالي مستمر، إذ كان هناك عجز في الموازنة العامة بنسبة تقدر بنحو 31 في المئة من القيمة الإجمالية في الفترة من 2011 إلى 2023. وتتم تغطية هذا العجز من خلال النقود المُطبعة، ما يعكس الوضع الاقتصادي والمالي السيئ الذي تعاني منه البلاد وفقاً لتحليل الباحث السوري.
وقال مسؤول سابق في المصرف التجاري السوري، وهو من بين أقدم المؤسسات المصرفية النشطة في سوريا، في اتصال هاتفي مع فريق التحقيق: “الغرض الرئيسي لعملية طباعة الأوراق
النقدية هو استمرار صرف رواتب الموظفين والقوات الأمنية والعسكرية في البلاد”. وهذه الخطوة تهدف الى بقاء النظام على قيد الحياة.