من طائرات مالطا وحرس الحدود الأوروبيين إلى سفينة طارق بن زياد… حَوِّلْ! طيلة ثلاثة أيام لا يزال القارب الذي يُقل الشاب السوري أحمد، المُنحدر من مدينة درعا السورية جنوباَ، ومعه 500 مهاجر من جنسيات أخرى، يشق مياه البحر المتوسط متجها شمالاً من طبرق الليبية باتجاه شواطئ إيطاليا، في رحلة انطلقت ليلاً بتاريخ 21 أيار/ مايو الماضي، من منطقة عين غزالة.
كان الشاب يُمنّي النفس بالوصول الى اوروبا لبداية حياة جديدة. فيما لم تكن ظروف رحلته على متن القارب (الجرافة) المكتظ مثالية، لكنه كان راضياً طالما أنه سيحقق حلمه في النهاية، بأن تطأ قدماه البر الأوربي، إلى أن اقتربت منهم فجأة سفينة زرقاء لاحت في الأفق من بعيد وبدأت تقترب منهم، وتلتف حول قاربهم مسبّبة أمواجاً عالية، أثرت على توازن قاربهم المتهالك الذي كاد أن ينقلب.
“هل تطفئ المحرّك أم نقوم بإغراقكم؟ صَاح شخص من على متن السفينة القادمة، يَحمل بندقية ويرتدي زيا عسكرياً، سرعان ما أخرجوا أسلحة رشاشة وبدأوا بإطلاق النار صوبنا… انثقب قاربنا… هنا تم إطفاء المحرّك”، يسرُد احمد لفريق التحقيق ما حصل معهم في ذلك اليوم.
على الفور، قفز أحد العسكريين على القارب المترنح، وطلب معرفة هوية القبطان/ السائق… ثم بقي على متن القارب برفقة المهاجرين حتّى الليل، قبل أن تبدأ عملية سحب قارب المهاجرين المتعبين، واعادتهم الى شواطئ ليبيا بحلول المساء، بعد أن كانوا قد دخلوا منطقة البحث والإنقاذ المالطية.
“إنها سفينة طارق بن زياد ـ عبارة (طارق بن زياد) مَكتوبة أيضا على السفينة… رأيت ذلك بعينيّ”، يضيف أحمد لفريق التحقيق، من مكان نتحفظ على ذكره لأسباب أمنية.
لكن، من هيَ سفينة “طارق بن زياد”؟ لِمن تتبع وكيف حصلت على معلومات واحداثيات مركب المهاجرين وبالتالي قدمت لسحب مركبهم واعادتهم الى ليبيا؟ من يُنسق ويدير هذا التواصل معها بقصد الصد والإرجاع من مياه البحث والإنقاذ الاوروبية؟ حيث يضطر في كل مرة المهاجرون للبداية من الصفر عندما يكررون محاولة السفر بالقارب مجدداً، فضلاً عن تعرضهم لأنواع مختلفة من التعذيب وقضاء فترات سجن، والتي عادة ما تنتهي بطلب الفدية من ذويهم للإفراج عنهم.
لكشف هذا التنسيق الخفي، تعاونت سراج في هذا التحقيق الاستقصائي مع مجموعة من الشركاء وغرف الأخبار الاستقصائية، والناشرين الدوليين وهم: Lighthouse Reports، مالطا اليوم، دير شبيغل، لوموند، الجزيرة، ودرج ميديا، وذلك بالاعتماد على تحليل تتابعي لبيانات الملاحة البحرية والجوية، ومعاينة وثائق، وإجراء مقابلات مع ضحايا خرجوا للتو من السجون الليبية، ومسؤولين ليبيين، وتتبع حسابات أفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب تحليل لسانياتي (لغوي) لنداءات مقاطع صوت من خبراء في علوم اللسانيات واللغويات في معهد اللغويات وتكنولوجيا اللغة بجامعة مالطا، بهدف تحليل مصدر أصوات (باللغة الانكليزية) بلهجات تم تسجيلها من نداءات طيارين مجهولين على الراديو.
كشف هذا التحقيق الاستقصائي ايضاً عن الجهة التي تشغّل سفينة طارق بن زياد، التي باتت شبحاً يطارد المهاجرين في عرض البحر المتوسط، وكيف تتعاون هذه السفينة في عمليات سحب وارجاع المهاجرين مع الجهات الأوروبية ممثلة بسلطات مالطا، الجزيرة المتوسطية والعضو في الاتحاد الأوروبي، والوكالة الأوروبية لإدارة التعاون العملياتي على الحدود الخارجية المعروفة اختصاراً باسم فرونتكس.
عاين فريق التحقيق على الأقل خمس حالات سحب وإرجاع قوارب مهاجرين من هذه السفينة في الفترة الممتدة بين أيار/ مايو وآب/ أغسطس الماضيين.
يقول والد أحد الشبان السوريين الذين كانوا على متن أحد القوارب المسحوبة: “قال لي ابني: عندما وصلنا الى مياه مالطا، اتصلنا بخفر السواحل والإنقاذ (الإيطالي)، وكان من المفترض أن يأتي لانقاذنا وإنقاذ قاربنا، في الصباح فوجئنا بوجود سفينة طارق بن زياد تحوم حولنا.. ربطونا بحبل وأعادوا قاربنا من مالطا إلى بنغازي، و سجنونا مباشرة”.
السفينة الشبح… طارق بن زياد
يظهر مقطع فيديو من الجو صورته إحدى الطائرات العاملة لصالح منظمة Sea Watch غير الحكومية الألمانية، المعنية بالبحث والإنقاذ، سفينة تسمى “طارق بن زياد” وهي تشق طريقها في مياه البحر المتوسط.
تظهر هذه السفينة بلونها الأزرق بطول 42 متراً، والذي يَخترقه خط احمر مُموج يمتد من مقدمتها إلى منتصفها، بينما تحيط بهيكلها طوافات إنقاذ سوداء اللون، وتمتاز بقدرتها على الإبحار بسرعة عالية قد تصل إلى أكثر من 19 عقدة بحرية.
صنعت السفينة قبل ثلاث سنوات في حوض غراندويل لبناء السفن في دبي، بالإمارات العربية المتحدة، بناءً على طلبية من شركة إيرانية تعمل في الخدمات البحرية، وتم إطلاق اسم Charlie 4 عليها في 2020.
حسب بيانات المنظمة العالمية للملاحة، فإن الشركة المالكة للسفينة منذ 11 شباط/ فبراير 2023 هي شركة إماراتية.
لا تتوفر معلومات كثيرة حول الشركة ونشاطاتها، ما دفع فريق التحقيق إلى مطالعة عنوانها المسجل في دبي، إذ يظهر أن مقر الشركة عبارة عن مستودع فيه بعض السفن الصغيرة، وعند تواصل أحد الصحافيين مع ارقام الشركة، نفي الموظف أية علاقة للشركة مع سفينة طارق بن زياد، مشيراً الى أن نشاطاتها (الشركة) تنحصر فقط في أعمال إصلاح السفن.
خلف الروابط الإماراتية والإيرانية للسفينة، يحيط الغموض بتفاصيل شرائها، سبب نقلها وكيفية انتهاء الأمر بها في ميناء بنغازي، وكيف انّ وصولها جاء بعد مرور شهر من تغيير اسمها من Charlie 4 إلى TAREQ BIN ZEYAD الاسم نفسه الذي يطلق على أكبر لواء عسكري في شرق ليبيا، يقوده صدام حفتر، نجل القائد العسكري خليفة حفتر، ويشكل جزءًا من القوات المسلحة العربية الليبية التابعة لحفتر.
المعلومات التي عثر عليها فريق التحقيق، تُظهر أن قبطان السفينة رجل أربعيني ذو لحية متوسطة، من جنسية غير ليبية، يظهر حسابه على “فيسبوك” أنه ينحدر من إثيوبيا وله صور تظهره على سطح السفينة منذ أن كان اسمها Charlie 4، بالإمكان رؤيته في صور مع بعض عناصر طارق بن زياد بجانب الميناء و هم يحملون الأسلحة و يرتدون الأقنعة السوداء.
القبطان ليس الرجل الوحيد من الجنسيات غير الليبية من طاقم هذه السفينة، إذ تشير شهادات بعض المهاجرين الذين تحدثنا اليهم الى وجود تقنيين وبحارة من ذوي الجنسيات الهندية والباكستانية من ضمن طاقم قيادة السفينة.
أيضا، تظهر مقاطع فيديو على منصة التواصل الاجتماعي TIKTOK شباناً في العشرينات من العمر على متنها، يرتدون زياً عسكرياً عليه شعار “اللواء طارق بن زياد المعزز”، تراهم تارة يتصورون حاملين أضلاع ولحم خروف يتظاهرون أكلها نيئة، وتارة يلعبون ألعاب فيديو على ظهر السفينة.
المحتوى الذي ينشرونه على وسائل التواصل الاجتماعي عندما يكونون خارج السفينة يظهرهم وهم يلتقطون الصور يتباهون بحمل البنادق بملابس تتطابق في تصميمها مع ملابس من أرقى المصممين الايطاليين ويمجدون الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، والزعيم الليبي السابق معمر القذافي.
وبعيداً عن التصاميم الإيطالية وحفلات الشواء والرقص على أنغام الأغاني الليبية الشعبية وموسيقى الراب الأميركية، يعطي تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، صورة مغايرة تماماً عن نشاطات “لواء طارق بن زياد”، القوة الضاربة في شرق ليبيا، حيث يصفُ التقرير المؤلّف من 21 صفحة عشرات الحالات الموثقة “من النشاطات الارهابية وغير القانونية الممارسة من أعضاء هذا اللواء، نشاطات تتضمن الخطف بغرض الفدية، القتل، الاغتصاب، والتعذيب بحق مهاجرين واشخاص قاموا بمعارضة علنية لسياسات حفتر في شرق وجنوب ليبيا”.
وكان تحقيق متاهات التهريب الذي علمت عليه سراج وشركائها في تموز/ يوليو الماضي، كشف عن نشاط شبكة تهريب دولية في شرق ليبيا تقل المهاجرين بالجو من دولهم كسوريا الى مطار بنينا في بنغازي، قبل إرسالهم بجرافات صيد (قوارب) في رحلات خطرة قد تنتهي بغرق المئات منهم.
أرز مطبوخ بماء البحر!
أكثر من أسبوعين مرّا منذ أن سحب عناصر “لواء طارق بن زياد TBZ” قارب باسل ورفاقه بتاريخ 18 آب/ أغسطس الماضي، من منطقة البحث والإنقاذ المالطية، طوال هذه الفترة لم يقدم “الخاطفون” كما يصفهم، له أي وجبة طعام طبيعية، باستثناء الأرز المطبوخ بمياه البحر المالحة.
في ذلك اليوم كان باسل، وهو رجل سوري في الثلاثينات من عمره، أب لطفلين، أكبرهما في الخامسة، يخوض روتين تعذيبه اليومي في إحدى نقاط ميناء بنغازي الذي تسيطر عليه سرية 20-20 التابعة للواء طارق بن زياد.
كان روتين التعذيب يبدأ بالضرب المبرح، ثم يتم أخذ باسل الى قرب الرصيف البحري للميناء، حيث يتم رميه في الماء بعمق عشرة أمتار وتركه لساعات وهو يحاول العوم، كي لا يغرق، في الوقت الذي كان فيه ملح البحر يكوي الجروح التي تركها التعذيب على جسده.
عندما قام العنصر المسلح، بإخراجه من مياه البحر لاحظ باسل شيئاً غريباً عن المعتاد، كان العنصر يحمل في يده عبوة ماء، رغيف خبز، و بيضة مسلوقة.
“هذا آخر يوم لك، كُلّ هذه الوجبة… إشرب الماء الآن، لأنه في جهنم ليس هنالك ماء”. قال له أحد العناصر. شعوره بالجوع في تلك اللحظة، كان أقوى بكثير من وقع حكم الإعدام عليه، يقول باسل مستذكراً تلك اللحظة: “اكلت كأنني لم أسمع قرار إعدامي، كنت جائعاً جداً”.
بجانب العنصر الذي أعطاه الماء والطعام، وقف رجل دين ذو لحية، يكمل باسل وصف ما حصل له : “ألبسوني بدلة برتقالية اللون، أمروني بإلصاق رأسي بالحائط، ووضع يدي خلف ظهري، طلبوا مني نطق الشهادة، وشتموني بأسوأ الكلمات، ثم فتحوا نيران بنادقهم علي”.
بالعودة أسبوعين إلى الوراء، كان باسل ورفاقه ما زالوا في المياه الدولية التابعة لمنطقة البحث والإنقاذ اليونانية، يتذكر جيداً ما حصل قبل يومين من اعتقاله في 16 آب/ أغسطس، يقول: “كنا ما بين قبرص واليونان، حينما رأينا طائرة استطلاع تحوم فوق مركبنا، استمرت لفترة من الوقت… قال لنا قائد المركب: إنها طائرة استطلاع يونانية”.
قام فريق التحقيق بالتثبّت من رواية باسل، باستعراض بيانات الطيران بين اليونان وقبرص، وجد أنّ هناك رحلة طيران لطائرة مسيرة من طراز Heron 1 تابعة لفرونتكس، حلقت حول عدة نقاط في 16 آب/ أغسطس بتسلسل يبدأ من الشرق الى الغرب، ما يشير الى أنها كانت تتابع قاربا قادما من شواطئ شرق المتوسط متجهة غرباً، وهو أمر يتماشى مع المعلومات الزمنية التي زود بها باسل فريق التحقيق.
بعد مرور يومين على رصد طائرة فرونتكس لقارب يقل باسل ومعه مهاجرين آخرين، قمنا برصد الطائرة نفسها وهي تحلق فوق قارب باسل في نقطة داخل منطقة البحث والإنقاذ المالطية، وعلى مسار القارب نفسه المتجه من الشرق إلى الغرب، وهو ما يتوافق مع مسار مركب باسل.
عندما سألنا فرونتكس عن رصدهم لمركب باسل مرتين، أكدوا لفريق التحقيق عبر المكتب الإعلامي، أنّ الطائرة المسيرة كانت قد رصدت فعلاً القارب قبل يومين من اعتراضه من طارق بن زياد، وبأنهم ايضا كانوا شاهدين على عملية الإعادة التي حصلت بعد يومين من قبل “سفينة طارق بن زياد”.
أكدت فرونتكس انها تصرفت وفق البروتوكول، إذ إنها بعد رصد القارب في المرة الأولى أخبرت بدورها سلطات اليونان ومالطا عن هذا القارب، ونفت في الوقت نفسه أية معرفة بكيفية حصول سفينة طارق بن زياد عن إحداثيات القارب قبل أن تعترضه وتعيده الي بنغازي.
تقول وزارة الخارجية اليونانية، في معرض ردها على ما عرضه فريق التحقيق حول هذه الحادثة، إن القارب كان في منطقة البحث والإنقاذ المالطية عندما تم اخبارهم عنه من فرونتكس، وإنهم اتبعوا القانون وأخبروا المالطيين عن القارب فور معرفتهم به، بينما لم ترد مالطا على أسئلة الصحافيين في ما إنْ كانوا قد شاركوا احداثيات قارب باسل مع سفينة طارق بن زياد من عدمه.
تقول الزميلة الباحثة في معهد ماكس بلانك للقانون العام والقانون الدولي، دانا شمولز: “ووفقاً لقانون الاتحاد الأوروبي، يجب على فرونتكس أن تتصرف بطرق تحترم حقوق الإنسان في جميع عملياتها. ولذلك، يجب ألا يتم تمرير الإحداثيات بطريقة تؤدي إلى عمليات صد عنيفة من قبل ميليشيات تقوم بتعذيب المهاجرين”.
الشاهد يتعرّف على معذبيه
في مكان ما داخل ميناء بنغازي كان باسل يستعد لتنفيذ حكم الإعدام بحقه، “عندما سمعت صوت الرصاص من حولي، وقعت على الأرض، كنت أعاين جسدي و ابحث عن دمي، قبل أن ينفجر الرجل الملتحي و العناصر بالضحك على حالتي، كنت فاقداً الإدراك في تلك اللحظة ولم أعرف إذا كنت حياً أو ميتا” يقول باسل بصوت مرتجف.
لم يكن تظاهر عناصر اللواء باعدامه نهاية التعذيب، أخبرنا باسل عن أحداث أخرى جرت معه من ضرب وإهانة و تعذيب، إذ كانوا يضعونه بشكل يومي في مياه البحر المالحة لعدة ساعات لحرق جروحه بعد ضربه وتعذيبه، وبعدها بفترة تم نقله إلى فيلا تابعة لأحد أمراء الحرب المشهورين في شرق ليبيا، وإجباره على العمل بالسخرة (دون مقابل) في حديقة الفيلا التي تضم عديد من الحيوانات المفترسة.
متاعب باسل لم تنته إلا بعد أسابيع عدة عندما تم نقله الى مجموعة مسلحة أخرى تفاوضت مع ذويه من للإفراج عنه، وبعد فترة من المفاوضات تم الاتفاق على إطلاق سراحه مقابل مبلغ 4 آلاف يورو، والإفراج عنه بعد اعتقال دام لمدة شهرين تقريبا.
حالة باسل هي من إحدى الحالات النادرة التي تم توثيق تعرض شخص للتعذيب والخطف بعد رصد فروندكس لقاربه وعليه قام فريق التحقيق بالبحث عن أدلة إضافية للتأكد من الادعاءات الرئيسية الواردة في شهادة باسل.
بالإضافة إلى معاينة رحلات الطيران، حصلنا على تقرير حالة اختفاء “قسري أو غير طوعي” تم تقديمه من أقارب باسل الى فريق عمل حالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي التابع للأمم المتحدة خلال فترة اختطافه.
كما شارك الشخص الذي تفاوض مع الخاطفين بالنيابة عن باسل، محادثة عبر برنامج الدردشة “واتسآب، بينه وبين شخص يحمل رقما ليبياً مع الصحافيين، وعند التحري عن الرقم الليبي في المحادثة تبين أنه عائد لشخص يعمل مع وزارة العدل في مناطق شرق ليبيا.
عرضنا صورة الشخص المعني بالمحادثة على باسل، أكد الاخير على الفور أنه كان من بين الأشخاص الذين قاموا بتعذيبه، كما تعرف ايضاً على معظم العناصر المسلحين الذين كانوا على متن السفينة عند عرض صورهم عليه.
نِداء عبر الأثير إلى… طارق بن زياد
في الثاني من آب/ أغسطس الماضي، الساعة 05:45 بتوقيت غرينتش GMT، قامت سفينة Open Arms التابعة لمنظمة إنقاذ غير حكومية بتسجيل رسالة صوتية على القناة 16، وهي قناة مفتوحة بإمكان جميع السفن والطائرات مراقبتها، وارسال واستقبال نداءات استغاثة في البحر عبر أثير الراديو. حصل عليها فريق التحقيق.
يقول مرسل الرسالة:
خفر السواحل بنغازي
بنغازي
خفر السواحل بنغازي <مقتطع>
طارق بن سلام, طارق بن سلامطارق بن زياد, طارق بن زياد
لدي موقع لك.
هل تريد الموقع؟
ثلاثة ثلاثة أربعة اثنان صفر واحد سبعة اثنان تسعة
ثلاثة ثلاثة أربعة اثنان صفر واحد سبعة اثنان تسعة
هل كنت إيه تبحث عن شيء ما؟
ها أنا أعطيك الموقعثلاثة ثلاثة أربعة اثنان صفر واحد سبعة اثنان تسعة
بعد نحو 11 ساعة من بث النداء على القناة 16، في تمام 16:36 بتوقيت غرينتش، كانت طائرة استطلاع تابعة لمنظمة Sea Watch غير الحكومية تراقب مياه البحر المتوسط بحثاً عن قوارب مهاجرين ربما تكون في خطر، وقتها رصدت الطائرة سفينة طارق بن زياد وعلى متنها الكثير من المهاجرين داخل المياه المالطية متجهة باتجاه الجنوب.
للعثور على المرسل الذي زود سفينة طارق بن زياد بالاحداثيات، والذي لم يعرف عن نفسه، قام فريق التحقيق بمعاينة جميع الرحلات الجوية القادمة من مالطا في ذلك اليوم، وحصل على بيانات رصد طيران مباشر من منظمة Sea Watch الحكومية، حيث تظهر إحدى صور الشاشة التي التقطها أحد أعضاء المنظمة في 06:52 بتوقيت غرينتش، وجود طائرة تابعة للقوات الجوية المالطية قادمة من مكان الإحداثيات التي تمت مشاركتها عبر قناة الراديو بتوقيت 05:45 غرينتش، ما يشير الى امكانية ان يكون المرسل المجهول على متن تلك الطائرة باعتبار أنها كانت قادمة من اتجاه الإحداثيات نفسه، بعد ساعة وسبع دقائق من مشاركة الإحداثيات على الراديو 16.
تواصل فريق التحقيق مع القوات المسلحة المالطية، وشارك معهم التسجيل الصوتي لمعرفة فيما إذا كانت طائراتهم تتواصل مع سفينة “طارق بن زياد”؟ لم تنف القوات المسلحة في إجابتها على فريق التحقيق، أنهم يتواصلون مع السفينة، واكتفوا بالقول “إن العاملين بالمجال البحري مُلزمون بمشاركة المعلومات مع باقي السفن في المنطقة”.
للذهاب أبعد من تأكيد سلطات مالطا أو نفيها، استعان فريق التحقيق ب بأليكساندرا فيلا، وسارة غريش، وهما أستاذتان في معهد اللغويات وتكنولوجيا اللغة بجامعة مالطا، إذ قامتا بتحليل التسجيل الصوتي الوارد عبر القناة 16 باللغة الإنكليزية، وذوّدتا فريق التحقيق بتقرير تحليلي مفصّل عن التسجيل.
بحسب التحليل، تم التأكد من أنّ المتحدث في التسجيل من مالطا، وذلك بعد تحديدهما الكثير من الخصائص التي تعرّفن عليها في لهجته، إذلا تجتمع هذه الخصائص سوياً إلا عندما يكون لغة المتكلم الأم هي المالطية.
تقول نورا ماركارد، أستاذة القانون العام الدولي وحقوق الإنسان الدولية في جامعة مونستر، الألمانية: في تعليقها على مشاركة مالطا للإحداثيات مع سفينة طارق بن زياد: “هذا تجاوز واضح لقانون البحار، بالإمكان وصف هذه الحالة بحالة صد عن طريق استخدام وسيط، إذ قامت سفينة طارق بن زياد في هذه الحالة بصد المركب بالنيابة عن مالطا”.
قرصنة وخطف من عرض البحر أم إنقاذ؟
كانت الساعة تشير الى الواحدة بعد الظهر يوم 26 تموز/ يوليو الماضي، عندما كان الشاب السوري خالد (24 عاما)، المنحدر من مدينة منبج شمال سوريا، و معه مائتي مهاجر آخرين، يتقدمون بقاربهم (الجرافة) داخل منطقة البحث والإنقاذ المالطية، عندما تفاجأوا باقتراب سفينة منهم تحمل العلم الليبي وطلبت منهم إيقاف المحرك.
اسم “طارق بن زياد” المكتوب على جانبها والعلم الليبي المرفرف على ساريتها، كانا كفيلين بإثارة شكوك ركاب القارب الذين رفضوا إيقاف المحرك، وحاولوا الفرار منهم.
قرارهم بالمقاومة لم يرقْ للعناصر على ظهر السفينة، “قاموا بضرب سفينتنا من الطرف اليمين، ثم أخرج أحد العسكريين مدفع ماء شديد الضخ وقام بفتحه علينا، بدأ الخوف ينتشر بين الناس والنساء والأطفال، إذ أجهش بعضهم بالبكاء، كما أن المسنّين بدأوا بالصياح على القبطان يطالبونه بالتوقف”. يضيف خالد، متذكراً كيف قام عناصر السفينة باعادتهم الى بنغازي.
كما هو الأمر بالنسبة الى باسل وأحمد اللذين عادا بالطريقة نفسها، بدأت قصة إعادة مركب خالد برؤيتهم من طائرة استطلاع تابعة لوكالة فرونتكس في صباح ذلك اليوم.
تقول فرونتكس إن طائرتها رأت القارب في تمام الساعة 07:17 بتوقيت غرينتش، بعدها بخمس دقائق وبسبب اكتظاظ المركب، قرر خبراء المنظمة إرسال نداء استغاثة يحتوي على إحداثيات القارب لجميع السفن في تلك المنطقة.
بحسب فرونتكس، لم تستجب أي سفينة لهذا النداء باستثناء سفينة “طارق بن زياد” التي عبرت عن استعدادها للقيام “بعملية الإنقاذ”.
عاين فريق التحقيق حركة السفن المارة في تلك المنطقة عبر مواقع الملاحة البحرية، فوجد سفينتين كانتا قريبتين من مكان قارب خالد، لم تغيّر أي من هاتين السفينتين مسارها بعد سماع النداء، وعندما تواصلنا مع إحدى السفينتين للتحقق من وصول النداء إليها للمباشرة في الانقاذ، كان الرد بأنهم لم يتلقوا أي تعليمات بالقيام بعملية إنقاذ من السلطات المعنية.
تقول فرونتكس إنها تواصلت مع جميع غرف الانقاذ في المنطقة البحرية وإنها لم تتلق أي رد منهم، وبعد إرسال النداء بقيت طائرتها تحوم حول المركب لمدة ساعة تقريبا، قبل أن تعود أدراجها الى مهبطها بسبب نفاد الوقود.
تعلق الخبيرة القانونية، نورا ماركارد على هذه الحالة بالقول: “تعرف فرونتكس من هي سفينة طارق بن زياد وما تفعله هذه الميليشيا. وتعلم فرونتكس أن هذا الوضع هو أقرب إلى عملية اختطاف منه إلى إنقاذ، ومن الواضح أن مراكز تنسيق الإنقاذ البحري لم تتولَّ تنسيق الحالة مطلقًا، وكان على فرونتكس أن تفترض أن الميليشيا ستأخذ الأشخاص على متن المركب خلافاً للقانون الدولي إلى مكان غير آمن، حيث قد يتعرضون لمزيد من الانتهاكات”.
خفر سواحل أم ميليشيات مسلحة؟
طالع فريق التحقيق أحد تقارير العمل اليومية التي تعود لشهر آب/ أغسطس الماضي، حول حالات الإنقاذ التي تتم في مناطق البحث والإنقاذ على الحدود الأوروبية في البحر المتوسط من قبل فرونتكس، بالإضافة الى الكثير من الوثائق الأخرى.
وجد فريق التحقيق بأحد اسطر التقرير إشارة الى مركب مهاجرين تم رصده من إحدى طائرات فرونتكس في 16 آب/ أغسطس بالقرب من شواطئ مصراتة، يشير التقرير إلى أن فرونتكس قامت بمشاركة الإحداثيات مع مركز البحث والإنقاذ الليبي في طرابلس، وبأن قارب المهاجرين قد انتهى الأمر به بأن أُعيد الى ليبيا من مركب تابع لخفر السواحل الليبي بإسم “طارق”.
يقول اللواء بشير بالنور، مدير الإدارة العامة لأمن السواحل لفريق التحقيق، إن خفر السواحل الليبي هو جسم واحد في شرق ليبيا وغربها، ويتبع لهيكلية واحدة، ولكن عند سؤاله عن سفينة طارق بن زياد نفى كون هذه السفينة تعمل تحت قيادته وقال” :هؤلاء (سفينة طارق بن زياد) يتبعون للجيش (الوطني) في بنغازي، ولكننا نتعاون معهم أحياناً”.
في المقابل، أكدت فرونتكس في ردودها على فريق التحقيق، أن “طارق” هو “طارق بن زياد”، ما يعني أنها تعتبر السفينة بمثابة سفينة خفر سواحل.
بدوره، نفى مدير العمليات في خفر السواحل الليبي في طرابلس، اللواء مسعود عبد الصمد، كون سفينة طارق بن زياد تابعة لخفر السواحل الليبي، أو أن يكون هنالك علاقة مباشرة لخفر السواحل في طرابلس معهم، قائلاً: “نحن نشارك الإحداثيات عندما يحتاج الأمر مع خفر السواحل في بنغازي، وهؤلاء بدورهم بإمكانهم تكليف من يريدون، المهم أن تتم عملية الانقاذ”.
تعاون فرونتكس مع خفر السواحل الليبي التابع لحكومة الدبيبي في غرب ليبيا هو أمر معروف لمتابعي شؤون الإنقاذ في المنطقة، وفي الوقت نفسه يثير الجدل للرأي العام الأوروبي، حيث صدرت الكثير من التقارير والتحقيقات عن تعرض المهاجرين الذين تمت اعادتهم الى ليبيا لاعتداءات مختلفة مثل الخطف وطلب الفدية، العمل بالسخرة أو حتى الاغتصاب.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، أقرت في وقت سابق بعدم وجوب إعادة المهاجرين الى ليبيا لأنهم سيكونون عرضة للتعذيب والموت، وكان التبرير دائماً من الحكومات بأن خفر السواحل الليبي، هو المسؤول عن منطقة البحث والإنقاذ الخاصة به، وأن هذا الأمر رغم أنه غير سار ولكنه خارج عن سيطرتهم وفي الوقت نفسه يتماشى مع عدم رغبتهم في استقبال المزيد من المهاجرين.
تظهر الحالات التي وثقها التحقيق، أن مالطا قد شاركت إحداثيات قوارب للمهاجرين مع ميليشيا لواء طارق بن زياد بشكل مباشر وفي أكثر من مناسبة، كما أن مشاركة فرونتكس احداثيات القوارب مع حكومة طرابلس غرب البلاد، يعني بأنه من الممكن أن تجد الإحداثيات طريقها إلى ميليشيات تخطف وتعذب المهاجرين بهدف طلب فدية من ذويهم في شرق ليبيا.
تعلق ماركارد على هذا التشابك قائلة: “يجب على فرونتكس ومراكز تنسيق الإنقاذ الوطنية ألا يقوموا بتقديم المعلومات إلى أي جهة ليبية. إذ إن هنالك توثيق كاف لانتهاكات حقوق الإنسان للاجئين الذين تتم إعادتهم من الليبيين. ليبيا ليست مكاناً آمناً”.
تسعى دول أوروبية عديدة على رأسها إيطاليا ومالطا لتوطيد علاقتها بالجنرال خليفة حفتر الرجل القوي الذي يحكم شرق ليبيا لتنفيذ وضمان مصالحها على الضفة الأخرى للمتوسط، أملاً بالمساعدة في الحد من التدفقات غير الشرعية للمهاجرين التي تنطلق من الشواطئ الليبية.
في 8 أيار/ مايو الماضي، أي الشهر نفسه الذي أعادت فيه سفينة طارق بن زياد قارب الشاب أحمد ومعه 500 مهاجر من المياه المالطية (25 أيار/مايو)، عقدت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، لقاء مع اللواء خليفة حفتر، لكن هذه المرة علي الأراضي الليبية في منطقة برقة لبحث ملفات الهجرة والتعاون المشترك، فيما اعتبر وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، أن خليفة حفتر هو الشخصية الأقوى، وأنه من الصواب الحديث معه عن الهجرة.
بينما تستمر الدول الأوروبية في تعزيز سياسات داخلية وحمائية بهدف تعزيز منع وصول المزيد من موجات اللاجئين من شمال افريقيا وتحديداً ليبيا، إلى أراضيها، يحاول باسل التعافي مما حصل له خلال فترة اعتقاله، يقول: “كل شيء في حياتي تغير بعد الحادثة، جراحي الجسدية التأمت، ولكن آثار التعذيب النفسية لم تتركني بعد”.