تحقيق: مروة جردي وأحمد حاج حمدو
دمشق: دخلت تسنيم مستشفى “دمشق المجتهد” أواخر أغسطس/ آب الماضي لإجراء مراجعة روتينية بسبب إصابتها بالربو. بابتسامة خجولة، جلست الشابّة على السرير، ثم حقنتها الممرضة بـ “إبرة”. لكنّها صرخت على الفور انقطع نفسها، ونُقلت إلى العناية المشددة. بعد دقائق خرجت ممرضتان وحاولتا طمأنة والدها الذي كان ينتظر خارجا: “بسيطة ما في شي”. لكن طبيب العناية المشددة كان أكثر صراحة: “حالتها حرجة وهي على جهاز التنفس الصناعي، إذا عاشت قد تصاب بأذية دماغية لانقطاع الأكسجة عن الدماغ”.
خلال ساعات توقف قلبها عدّة مرات، أنعش مرارا ولم يعد يستجب: “ماتت وانطفأت الشعلة”، يشكو والدها محمد العرب بحرقة.
على مقربة من مستشفى “دمشق المجتهد” الحكومي يقع مستشفى المهايني الخاص. دخله الفتى حسني منتصف إبريل/ نيسان المنصرم لإجراء عملية “انحراف وتيرة” الأنف، لكنّه أخرج منه محمولاً على الأكتاف، كما خرجت تسنيم جثّة هامدة.
عقب العملية، لاحظ والد حسني تشنجّات بجسم ابنه، عدّها الطبيب علامات استيقاظه من التخدير. لكن بعد عشر دقائق انقطع نفسه، انتفخت رقبته، توقف عن الحركة ودخل في غيبوبة استدعت نقله للعناية المشددة. وفي اليوم السادس، توقف قلبه مرتين وفاضت روح.
تقرير الطب الشرعي الثلاثي الذي حصلنا على نسخة منه، يعزو سبب الوفاة إلى “إهمال وعدم تحرز الطبيب في تثبيت الدكّات الأنفية – سدادات قطنية من أجل وقف النزيف الفوري- ، ما أدّى إلى انزلاق إحداهما إلى مجرى التنفس في البلعوم. رغم أن وقوع هذه المشكلة أمر نادر، إلا أن الطبيب قصّر وأهمل بحق الطفل لناحية عدم تثبيت الدكّات من الخارج، وهذه خبرتنا بالإجماع”.
على غرار تسنيم وحسني، يوثق هذا التحقيق خلال ستة أشهر وفاة خمسة أشخاص، وبتر يد سادس خلال 2017، بعد أن تلقوا علاجات أو خضعوا لعمليات جراحية في مستشفيات سورية حكومية وخاصة، في مناطق تحت سيطرة الحكومة السورية.
جميع الوفيات نجمت عن إهمال طبي وقلّة احتراز. مع ذلك لم تحاسب بسببها أي جهة سواء أكانت طبيبا أو مستشفى، لعدم وجود قانون للمساءلة الطبّية في البلاد، فضلا عن تعدد المرجعيات النقابية، الحكومية والقضائية، في شكاوى الإهمال أو الأخطاء الطبية.
وتحكم مسارات شكاوى الأخطاء الطبية والإهمال القوانين العامة وهي: العقوبات والقانون المدني، وقانون نقابة الأطباء، وقانون مزاولة المهن الطبية، وجميعها لا تُعرّف الخطأ الطبي، ولا تحقق مبدأ المساءلة العادلة للجسم الطبي عن أية أخطاء مرتكبة. ويرى مستشار وزير العدل القاضي فؤاد درويش عدم وجود حاجة لقانون مساءلة طبية، كون “قانون العقوبات الحالي شامل لكل حالات الأخطاء الطبية، والقضاء هو بيت الحكم” يأخذ المحامي كمال سلمان على اللجان الطبية المشكلة من المحاكم وفق قانون العقوبات تواطؤها، ” وعدم نزاهتها وتحيزها”.
فيما خسر متضررون 700 دعوى أمام محاكم سورية، وفقا لقانون العقوبات السوري، كانت تحت بند التسبب بالأذية، من ضمنها دعاوى بحق أطباء ومستشفيات بسبب إهمال أو تقصير طبي بين عامي 2014 و2017. وقرّرت المحاكم إخلاء مسؤولية الأطباء والمستشفيات بحجّة عدم توافر النية والإرادة الحرة لارتكاب الخطأ أو الإهمال الطبي.
صور من حياة الفتى حسني الحسين
وقبل مغيب شمس اليوم الخامس، كشف طبيب التخدير عماد الخطّاب عن أنف حسني في غرفة العناية فلم يجد “دكّة” الفتحة اليسرى، حسب التقارير الطبية التي بحوزتنا، والمتوافقة مع الاستشارة الفنية للدكتور عماد فضة المختص بالجراحة الأنفية.
بعد وفاة حسني في اليوم السادس، اتجه والده للنيابة العامّة وقدّم دعوى ضد المستشفى وكادره. قرّرت النيابة نقل الجثّة لمستشفى دمشق المركزي، وتشريحها هناك. أرجع تقرير الطب الشرعي سبب الوفاة إلى نقص أكسجة دماغية ناجمة عن انسداد الطرق التنفسية العلوية بسبب انزلاق “الدكّة” الأنفية بعد عمل جراحي لوتيرة الأنف -الحاجز الأنفي، الذي يقسم الأنف إلى شقين الشق الأيمن والشق الأيسر-.
قرّر القاضي تكليف الشرطة بالبحث عن الطبيب (ي.ب)، وتوديعه النيابة بدمشق حال إلقاء القبض عليه. باشرت المحكمة النظر في القضية. لم يحضر أي طرف من الجهّات المدعى عليها سوى محامي طبيب التخدير عماد خطّاب، المخلى سبيله.
فشلت محاولات معدي التحقيق في التواصل مع الطبيب (ي.ب) كونه خارج البلاد. بعد أيام على وفاة حسني، نشر (ي.ب) تدوينة على موقع فيسبوك ألقى فيها اللوم على طاقم التخدير: “خرج المريض من غرفة العمليات وحصل لديه نقص أكسجين وتوقف قلبه، بسبب جرعة تخدير زائدة أدّت إلى تشنج الحنجرة وتوقف التنفس. وهذه مسؤولية طاقم التخدير كاملاً”.
اللجان الطبية “تضامن سلبي”
صلاحية تشكيل اللجان الطبية من ذوي الخبرة والاختصاص منوطة بنقابة الأطباء، كونها صاحبة الشأن والأعلم بالأطباء، حسبما يشرح رئيس شعبة المشافي في مديرية صحّة دمشق والعضو في نقابة الأطباء عماد شعبان.
تتألف اللجان الطبية وفق ثلاثة مستويات: الأول يضم ثلاثة أطباء من اختيار النقابة، والثاني من خمسة أطباء في حال تطلب الأمر خبرة فنية أخرى. وفي حال الطعن في نتائج أي من اللجنتين، تشكّل لجنة من سبعة أطباء، بحسب شعبان: “قرارات هذه اللجان غير نهائية، فالكلمة الفصل للقاضي في المحكمة أو للمجلس المسلكي في النقابة”.
يشير مستشار وزير العدل القاضي فؤاد درويش إلى تعاطف سلبي بين الأطباء: “فنادرا ما تحكم هذه اللجان بأن زميلا لهم ارتكب خطأ. الأطباء ما بيعطوا على بعضون”. ويرى درويش أن “اللجان الطبية في مثل هذا النوع من القضايا تسد الطريق أمام استرجاع حقوق المتضرر”.
يرى المحامي كمال سلمان أن لجانا طبّية تتأخر “عن قصد في كتابة تقاريرها، وتغيب عن المحاكمات، لإطالة أمد التقاضي طمعا في العفو أو صفح المتضرر مع مرور الزمن أو سقوط الحكم بالتقادم”. ويقول: “لي دعوى أخطاء طبية منذ 2011 ولغاية اللحظة لم يبت فيها”. كما أن معظم “الأطباء في اللجان الطبية لا يقولون الحقيقة عند وجود شكوى أو دعاوى ضد طبيب آخر، لخوفهم من وقوعهم بخطأ مماثل في المستقبل”، حسبما يضيف سلمان.
يتفق نقيب أطباء اللاذقية غسان فندي مع سليمان، ويقترح “تشكيل جهة قضائية متخصصة بالدعاوى المتعلقة بالأطباء، إضافة لوضع معايير لاختيار الأطباء الذين يفصلون في هذا النوع من الدعاوى”.
كيف تخسر يدك في مستشفى سوري؟
كُسرت يد الطفل حيدر عيسى تسع سنوات بعد وقوعه عن درّاجته الهوائية في السادس من يوليو/ تمّوز 2017، فنُقل إلى مستشفى الحفّة بريف اللاذقية. هناك، قطب الطبيب الجرح في يده ثم ألبسها جبيرة. بيد أن الآلام لم تفارق ذراع الطفل ووصلت إلى الكتف، حتى ظهرَ ورم خفيف في أصابع اليد المكسورة مع تحول لونها إلى الأزرق. وحين رجع والد الطفل إلى الطبيب ذاته، اكتفى بقصّ الجبيرة دون الكشف على الجرح الذي كان مُتفاقماً.
وفي اليوم التالي تحوّل لون أصابع الطفل من الأزرق إلى الأسود فنقله والده إلى المستشفى الوطني في اللاذقية هذه المرّة، حيث قرروا بتروا يده بعد مداخلة جراحية عاجلة “حفاظاً على حياته”. لكن الأب نقله إلى مستشفى العثمان على أمل إيجاد علاج غير البتر، لكن الأطباء قرروا الأمر ذاته، هناك أبلغ الأب المصدوم “بأنّ الطبيب المسؤول عنه قد أخطأ، إذ كان عليه توسيع الجبيرة حوالي 3 سم لتخفيف الضغط عن اليد ونزع الشاش بعد أن قصّ الجبيرة للكشف على الجرح المُتعفن”.
تقدّم والد حيدر بشكوى إلى فرع نقابة الأطباء باللاذقية، فشكّلت النقابة لجنة طبية ثلاثية خلصت إلى تبرئة الطبيب. ثمَّ شكّلت لجنة خماسية حمّلت “جميع الأطراف” من بينهم الأهل مسؤولية ما حصل لذوي الطفل البالغ من العمر تسع سنوات، لتأخرهم في نقل الطفل إلى المستشفى، وفقاً لنقيب أطباء اللاذقية غسان فندي الذي وعد الأهل بالتحصل على تعويض مناسب من الأطباء. إلا أن عائلة حيدر عدّت مبلغ مليوني ليرة (4 آلاف دولار) قليلاً، وقررت رفع دعوى أمام النائب العام في اللاذقية بتاريخ 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، ضد 12 طبيبا تعاملوا مع حال حيدر في مشفيي (الحفّة والوطني). لكن المحكمة لم تحدّد حتى الآن موعداً للجلسة الأولى، التي تأجّلت عدّة مرّات بناء على طلب من الأطباء المُدّعى عليهم، وفي كلِّ مرّة يسأل فيها والد حيدر عن تطورات الدعوى في القصر العدلي يُبلّغ بأنَّ الدعوى قد تطول لسنوات.
يرى نقيب أطباء اللاذقية غسان فندي “تقصيرا لدى أطباء ويجب تحديده”. لكنه لم يتبنَّ أي رأي لأن التحقيقات جارية.
واليوم يضطر والد حيدر للتوجه إلى الجمعيات الخيرية بحثاً عمن يساعده في تأمين يد صناعية لطفله، في وقتٍ يُفترض فيه أن تتم محاسبة الطبيب.
متاهة الشكوى
أما تسنيم التي ماتت بعد سويعات على إدخالها إلى مستشفى دمشق المجتهد لإجراء مراجعة روتينية بسبب الربو، فلا تزال قضيتها عالقة دون أن تنصف. يقول والدها محمد العرب: “بعد أن حقنت الممرّضة ابنتي بثوانٍ، انهارت على الأرض، وتوقّفت عن الحركة وبدأت تقول: أنا أختنق. ثم وقعت أرضاً وتحوّل لون شفتيها إلى الأزرق”. تقرير تسنيم الطبي يفيد بأنها “تعرضت لتغيّم وعي مفاجئ (هجمة فقدان وعي) وزرقة مركزية بعد دخولها بنصف ساعة. ووصلت إلى العناية بتوقّف قلب وتنفّس. تم إنعاش قلبها ثلاث مرات، ولم يستجب في المرة الرابعة وأعلن عن وفاتها”. لكن التقرير لا يقدّم سببًا لفقدان الوعي وما تلاه من توقف القلب والتنفس.
شكوى والد تسنيم إلى “نقابة أطباء سوريا – فرع دمشق” تعود إلى 27 أغسطس/ آب 2017. ردّت عليه النقابة بأنها “لا تستقبل دعاوى ضد جهّات وإنما ضد أشخاص الأطباء”. ولأن الأب لا يعرف اسم الطبيب المسؤول عن حالتها، لم يستكمل إجراءات الشكوى مع النقابة.
في ذات اليوم قدّم شكوى لوزارة الصحة. قابل وزير الصحة الذي وعده شفاهة بإجراء تحقيق. بعد ذلك، اتجه إلى المستشفى ليسأل عن تحقيق وزارة الصحّة فأبلغوه أن شكواه أحيلت إلى “الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش”. (هيئة مستقلة تتحقق من تطبيق القوانين، وتقييم أداء العمل والعاملين، وتحديد أوجه القصور، واقتراح الحلول لمعالجتها). حينها ذهب إلى مقر الهيئة للاستفسار عنها، فلم يجد أي شكوى باسمه أو تحت أي اسم آخر. سلّم الهيئة شكوى بتاريخ 7 سبتمبر/ أيلول الماضي. وبعد عشرة أيام عُرضت الشكوى على رئاسة مجلس الوزراء تحت رقم (1 / ع / 2109)، لكنها لا تزال رهن التحقيق. يعلّل رئيس شعبة المشافي في مديرية صحة دمشق عماد شعبان، عدم تشكيل لجنة طبية لمتابعة قضية تسنيم، بتقديم ذويها بشكوى إلى جهة غير قضائية.
أما مدير مستشفى المجتهد الطبيب هيثم الحسيني، فيرفض التعليق على تفاصيل ملف تسنيم لأنه منظور أمام الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
يفسّر الحسيني رفض نقابة الأطباء استلام الشكوى “لأنّها ليست ضد طبيب في عيادته وإنما ضد مستشفى حكومي يندرج ضمن مؤسّسات الدولة، فإن وزارة الصحّة تحوّله إلى الرقابة والتفتيش في هذه الحال”. ويرى أن “الموضوع متكامل وله علاقة بقسم الإسعاف وشعبة الصدرية والعناية المشدّدة وليس بالطبيب بعينه”.
يقول نقيب أطباء سوريا عبد القادر حسن إن “النقابة ليست الجهة الوحيدة التي تقدم إليها الشكوى”، مشيرا إلى أن المجلس المسلكي تلقى شكويين فقط عام 2017.يفسّر القاضي فؤاد درويش شح الشكاوى أمام النقابة بغياب ثقافة اللجوء للنقابة، إذ يتجّه معظم الناس إلى المحاكم، ما يحصر الدعوى بين حقوقية (تعويض) أو جزائية (عقوبة).
غياب قانون المساءلة الطبية يفاقم المشكلة
رفع زوج علا دعوى قضائية لدى محكمة درعا ضد الكادر الطبي. أوقف ثلاثة أطباء لبضعة أيام ثم أفرج عنهم، لتغادر الطبيبة المتهمة سوريا، بحسب نقيب أطباء درعا ياسر نصير، وتبقى القضية مفتوحة أمام القضاء.
دراسة لوزارة الصحّة وجامعة دمشق بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان تفيد بأن 90 % من وفيات الأمومة تنجم عن أخطاء في التشخيص، نقص التجهيزات أو سوء الرعاية. شملت الدراسة جميع محافظات سوريا عام 2008.
وبالرجوع إلى أرشيف القصر العدلي، وجد معدّا التحقيق 700 دعوى مصنّفة بين عامي 2014-2017 تحت بندي “التسبب بالإيذاء أو التسبب في الوفاة”، وذلك بسبب عدم وجود قانون خاص بالأخطاء الطبية، حسبما أبلغنا المسؤول هناك، بشرط عدم الإفصاح عن اسمه.
يوضح المحامي كمال سلمان أن “الدعاوى المرفوعة ضد الأطباء لا تنجح في الأغلب بسبب عدم وجود قانون صارم للمساءلة الطبية يدين الطبيب”.
ويرى سلمان أن الردع الجزائي والمدني ضعيف الأثر، “لا يجبر الضرر ولا يحقق غاية المشرع بإنصاف الضحية”. كما يشدد على أنه “دون محاسبة الأطباء لا يمكن وقف الأخطاء”.
ويطالب سلمان بسن قانون للمساءلة الطبية، يراعي تشديد العقوبات الجزائية المسلكية المتدرجة، وزيادة مقدار التعويض، وسرعة إجراءات التقاضي، وجبر الضرر، معتبرا أن قانون العقوبات غير كاف لتحقيق ذلك.
وحتى نشر هذا التحقيق لم تنصف عائلات تسنيم وحسني وعلا وطفلتها التي فقدت حنان الأم ساعة ولادتها. ولم يحاسب أي طبيب أو مستشفى تسبب في مأساة هذه الأسر، في حين ينتظر حيدر من القضاء أن ينصفه في تعويض يوفر له يدا صناعية، ليعلب مع أطفال الحي.