Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit

“لجان الجنزير”.. “سراج” تكشف عن فرق الإعدام السريّة في سجن صيدنايا وتحاور أعضاءها

تواصل فريق التحقيق مع 12 عضواً من لجان الإعدامات في سجن صيدنايا بعد التعرف عليهم ومطابقة هوياتهم مع الأسماء الواردة في قرارات تشكيل اللجان باستخدام المصادر المفتوحة، بينهم طبيب أسنان مهمّته فحص العسكريين المنفذين للاعدامات و جاهزيتهم قبل إعدام السجناء، وطبيب آخر تبدأ مهمته بعد تنفيذ الحكم، وهي التأكد من وفاة من تم إعدامه للتو، بينما زميل لهم في اللجنة كان يتجول داخل تركيا ويشارك صوراً له من ميناء أوديسا في أوكرانيا، ويهمُ بالسفر إلى دولة عربية.

تعيش أم خالد التي تنحدر من أحياء جنوب العاصمة دمشق، منذ أكثر من عقد على وقع غياب ابنها الشاب الذي كان في الثامنة عشرة من عمره حين اعتُقل عام 2013.

بعد اعتقاله نُقل مباشرة إلى فرع فلسطين. مرّت أربعة أعوام قبل أن تعثر أم خالد على خيط صغير من الأمل، حيث حصلت عام 2017 على إخراج قيد من دائرة الأحوال المدنية في دمشق، يؤكد أنه لا يزال على قيد الحياة، بينما أخبرها أحدهم أنه معتقل في فرع أمن الدولة بدمشق. منذ ذلك اليوم، تحول انتظارها إلى حياة كاملة بين الرجاء والقلق. 

مع بزوغ فجر الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي وسقوط الأسد، هرعت السيدة إلى بوابة سجن صيدنايا الضخمة شمال العاصمة دمشق، تحمل صورة ابنها علّها تضمّه أخيراً بعد غياب طويل.
لكن عندما وصلت صباح ذلك اليوم البارد إلى بوابة السجن، وسط تزاحم الحشود الباحثين عن ذويهم، صعدت الطريق المؤدية إلى المهاجع والزنازين بخطوات متثاقلة، وبعيون يملؤها الأمل، فُتحت الأبواب أمامها، فلم تجد ابنها بين الخارجين من الزنازين المظلمة والباردة. 

مرة أخرى، وبعد حوالي شهر زارت السيدة سجن صيدنايا لحضور مناسبة تكريم لذكرى ضحايا السجن. هناك التقاها فريق التحقيق، وهي تحمل مرة أخرى صورة ابنها وتهمسُ كلمات تعبر عن حزنها وتُظهر الصورة بقدر ما تستطيع لكل من يراها عله يتذكر ابنها أو يكون قد رآه في مكان ما داخل هذا المعتقل.

تقول وهي تبكي: “للأسف لم يخرج ابني حياً.. من خرج على قيد الحياة من السجن يعدون على الأصابع”، في إشارة منها إلى إعدام السجناء وندرة البقاء لمن يخرج حياً من سجن صيدنايا. 

أم خالد تحمل صورة ابنها المفقود خلال حفل تكريم لذكرى ضحايا سجن صيدنايا، شباط/ فبراير 2025، سراج.

كانت قرارات الإعدام في سجن صيدنايا تصدر وتُنفّذ عبر لجان ميدانية سرّية، لا توفر الحد الأدنى من الضمانات، وفق وصف فيرونيكا بيلينتاني، رئيسة وحدة دعم القانون الدولي في البرنامج السوري للتطوير القانوني (SDLP). 

تقول: “الإعدامات التي جرت داخل سجن صيدنايا تندرج بوضوح ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية والجرائم المرتكبة أثناء النزاع، نظراً لطابعها الممنهج والواسع النطاق، وارتباطها بسياسات قمعية اتبعتها السلطات السورية ضد المدنيين”.

وبحسب معلومات اطلع عليها فريق التحقيق، فإن ما لا يقل عن 15,347 حكم إعدام نُفذ في صيدنايا بين 2011 و2021 بموجب قرارات محكمة الميدان العسكرية. 

الوثائق والمعلومات التي اطلع عليها فريق التحقيق تكشف عن تشكيل لجان إعدام هدفها إنهاء حيوات السجناء شنقاً، وتخصيص فرق لتنفيذ هذه الإعدامات داخل السجن.

في 16 أيلول/سبتمبر 2019،  فَقد 18 معتقلًا حياتهم، وهم ينحدرون من دمشق ودرعا وحلب. وفي 3 أيلول/سبتمبر 2020، انتهت حيوات 29 شخصًا، بينهم تونسيون وعراقيون وسعوديون. كما نصبت المشانق في 30 تموز/يوليو، و12 تشرين الثاني/نوفمبر، و10 كانون الأول/ديسمبر 2020، و19 كانون الثاني/يناير 2021، بحق مجموعات من أربعة إلى ثمانية وعشرين شخصًا.

الصحافي الاستقصائي محمد بسيكي يتحدث مع السيدة أم خالد في سجن صيدنايا، شباط/ فبراير 2025.

لكن بعد سقوط النظام السوري، وفتح أبواب السجن، دار حديث ونقاش كبيرين بين السوريين، وخاصة ذوي الضحايا، بشأن من يقف خلف هذه الإعدامات؟ كان هناك ولا يزال رغبة كبيرة في معرفة حلقات سلسلة تنفيذ أوامر الإعدام، وما هي أسماء أعضائها التي لطالما بقيت سراً في مكان يعد من أكثر السجون سرية في العالم. 

في هذا التحقيق نجيب على هذا التساؤل. 

عائلات سورية داخل غرفة صغيرة في سجن صيدنايا تبحث بين أكوام من الملفات والوثائق القديمة عن اسم أو رقم قد يكشف مصير أحد المفقودين، 11 كانون الأول/ ديسمبر 2024، تصوير: دحّام الأسعد.

مع صدور أي حكم بالإعدام عن محكمة الميدان العسكري، تبدأ سلسلة مغلقة من الإجراءات السرية، يُشرف عليها ما يمكن اعتباره جهازاً هرمياً يتكوّن من مستويين رئيسيين، يضمان لجنتين، بحسب وثائق اطلع عليها فريق التحقيق.

إذ توجد على المستوى الأول “اللجنة المركزية” أو “اللجنة المشرفة” التي تتولى تنفيذ المهام على المستوى المركزي باسم الدولة، وتشرف على التخطيط العام وتنفيذ قرارات الإعدام. 

أما على المستوى الثاني، فتظهر “اللجنة التنفيذية” التي تتولى تنفيذ الأحكام ميدانياً داخل السجن. وهي تُعرف بين المعتقلين الناجين باسم “لجنة الجنزير”، بسبب ربط الضحايا بجنزير يلتف حول اقدامهم يساقون به إلى غرفة الإعدام لملاقاة حتفهم. وتصدر أوامر تشكيل هذه اللجان عن مدير السجن العسكري الأول (وهو الاسم الرسمي لسجن صيدنايا)، والذي يكتفي بالتوقيع من دون اسم. 

وثيقة بمثابة أمر اداري بتشكيل لجنة تنفيذ حكم الإعدام في كانون الثاني/يناير 2020 – حصري سراج.

بعد الاطلاع على قرارات تشكيل لجان محددة بالأسماء وفحصها، شكّلت وحدة “سراج” فريقًا لتتبّع أعضاء اللجنتين التنفيذيتين الذين وردت أسماؤهم في الوثيقتين من خلال تحليل وثائق رسمية، ومقاطعة شهادات ناجين، والاعتماد على تقنيات المصادر المفتوحة. 

استطاع فريق التحقيق، ووحدة المصادر المفتوحة تتبّع 27 اسمًا وردوا في الوثائق، بعضهم ما زال داخل سوريا، فيما يشتبه أن آخرين غادروا إلى الخارج.

وإضافة إلى أسماء أعضاء لجنتي الإعدام، تضم المعلومات التي أمكن جمعها لاحقاً: مواليدهم، وحسابات التواصل الاجتماعي التي كانوا يستعملونها، خصوصاً منصة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، وصورهم باللباس العسكري والمدني، وصوراً تجمعهم بأسماء شهيرة في سجن صيدنايا. إذ ظهر بعضهم في أوقات سابقة مع أوس سلوم، والذي يُعرف بلقب “عزرائيل صيدنايا“.

مهاجع سجن صيدنايا بعد فتح الأبواب، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

أحد عناصر لجنة الإعدام (لجنة الجنزير) لعام 2020، ويدعى “أحمد أ”، يقيم خارج سوريا ويتجول داخل الأراضي التركية.

على حسابه في “فيسبوك”، يشارك منشوراً يظهر أنه سافر من مدينة إسطنبول إلى مدينة مرسين جنوب تركيا بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. 

صورة من حساب “فيسبوك” لعضو لجنة الإعدام في سجن صيدنايا “أحمد أ”.

كما تظهر له صور يذكر أنها في ميناء أوديسا/ أوكرانيا بتاريخ 18 تشرين الأول/أكتوبر 2022. وقبلها يطلب من أصدقائه ومتابعيه الدعوات بالتوفيق في رحلته إلى مصر بتاريخ 20 أيلول/سبتمبر 2022. قبلها نشر صورته بالبدلة العسكرية وعلى ذراعه شعار “الشرطة العسكرية”وهو داخل باحات السجن.

صورة لأحمد أ. من صفحته على فيسبوك، يظهر فيها مرتديًا بدلته العسكرية، و على كتفه شارة الشرطة العسكرية.

 

تظهر العديد من الصور الأخرى أعضاء لجنتي الإعدام في حياتهم اليومية وهم يجلسون في المقاهي أو في جلسات خاصة أو على شاطئ البحر، فيما ينشط أعضاء آخرون في أعمال أخرى، كما في حالة أحد الأطباء الذي يعمل طبيباً للأسنان، ويقدم خدمات طبية مجانية عبر إحدى الجمعيات الخيرية في قرية بيت ياشوط في محافظة اللاذقية.

عمل فريق التحقيق على مطابقة الأسماء والصور المرتبطة بأعضاء لجنتي الإعدام مع مجموعة واسعة من المصادر المغلقة  والمفتوحة، رغم تباعدها واختلاف طبيعتها، بهدف التحقق من هوية الأفراد بدقة.

ولتعزيز نتائج التحقق، تواصل الفريق مع الباحث السوري حسام جزماتي الذي أمضى سنوات في توثيق حسابات ضباط وعناصر سجن صيدنايا العسكري على وسائل التواصل الاجتماعي، من ضمنهم عدد من المشاركين في لجان الإعدام.

يمتلك جزماتي أرشيفًا موثقًا يتقاطع مع عمل منظمات سورية تُعنى بشؤون المعتقلين وذويهم. وقد أظهرت المقارنة بين نتائجه وبين ما توصّل إليه فريق التحقيق تطابقًا تامًا بنسبة 100% في الأسماء والصور.

أيضاً، تواصلنا مع طبيب ضابط ورد اسمه في إحدى لجنتي الإعدام اللتين كانتا ضمن عملية البحث، واستطاع بدوره التعرف على وجوه وأسماء العديد من الأعضاء الآخرين (زملاءه) في لجنة الإعدام التي يرد اسمه فيها. 

 

هذه الشهادة ولكونها الأولى من نوعها مثلت دليلاً أخيراً وحاسماً لفريق التحقيق، في التأكد من هويات أعضاء لجنة الإعدام والتعرف عليهم.

 

“بمنتهى السرية”: هيكلية لجان الإعدام

بدأ  فريق التحقيق تعقب لجان الإعدام عندما اطلع على نسخ من وثائق رسمية تُظهر تشكيل لجنة مشرفة على تنفيذ أحكام الإعدام، مؤلفة من ثلاثة أعضاء على الأقل، هم: نائب رئيس المحكمة العسكرية، وطبيب شرعي، وضابط في الشرطة العسكرية. 

شارة وبدلة عسكرية لقوات الشرطة العسكرية تركها عناصر قوات النظام السوري السابق في سجن صيدنايا عقب فرارهم، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

وتُنفذ الإعدامات في سجن صيدنايا بشكل أسبوعي. إذ يُساق ما بين 20 إلى 50 معتقلًا إلى المشنقة من دون سابق إنذار؛ فلا يُبلّغون بموعد تنفيذ الحكم، بل يُنقلون مساءً ليتم إعدامهم في الليلة نفسها أو في صباح اليوم التالي قبل بزوغ الفجر. 

وتشرف على هذه العملية شخصيات أمنية وعسكرية رفيعة، من بينها رئيس القلم الأمني في السجن، مدير السجن، النائب العام العسكري للمحكمة الميدانية، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش السوري، ضابط من شعبة المخابرات العسكرية، ورئيس فرع التحقيق (248)، إضافةً إلى طبيب شرعي من مشفى تشرين العسكري. وفي بعض الأحيان، يُستدعى رجل دين ليضفي على الإعدامات غطاءً دينيًا يمنحها مظهرًا من الشرعية.

تتولّى هذه اللجنة الإشراف الرسمي (الحكومي) على التنفيذ، وتقوم بتوثيق عملية الإعدام والتحقق من الوفاة في غياب لأي رقابة مستقلة أو إشراف قانوني مدني.

وتنفّذ الإعدامات لجنة تنفيذ في الساعة الرابعة فجرًا، في مبنى السجن العسكري الأول.

بهو وسقف الساحة الرئيسية داخل سجن صيدنايا، شباط/ فبراير 2025 – سراج.

ويُبلّغ تنفيذ الحكم إلى قيادة المنطقة الجنوبية التابعة للجيش السوري، مع الإشارة الصريحة إلى أنه “بناء على أمر نائب القائد العام للجيش ووزير الدفاع”، ما يعكس أن هذه الأوامر ليست محلية، بل مرتبطة بقيادة النظام مباشرة، وهنا بشار الأسد شخصياً.

 

صورة محضر كشف وتنفيذ حكم إعدام صادر عن القضاء العسكري السوري في 12 كانون الأول/ديسمبر 2016. ويوثّق تنفيذ حكم الإعدام بحق شاب من محافظة القنيطرة. مصدر الصورة: زمان الوصل – خاص بـ”سراج”.

يكشف مروان العش، من مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين (SDC)، أن تنفيذ الإعدامات يتم بطريقة روتينية، صارمة، وسرّية. إذ تُستدعى الأسماء المراد إعدامها من قبل قاضي محكمة الميدان العسكري، بعد موافقات متسلسلة تبدأ من مدير إدارة القضاء العسكري وتنتهي عند وزير الدفاع بالنيابة عن رئيس الجمهورية، وتشمل المحكومين من السوريين والعرب والأجانب.

يُفصل المحكومون عن بقية السجناء قبل 48 ساعة، ويُنقلون إلى “غرفة العزل” ضمن المبنى الأحمر، حيث يُحرمون من الطعام ويتعرضون لتعذيب مكثّف. لاحقًا، تُنقل الدفعة ليلًا إلى المبنى الأبيض بشاحنة مغلقة، تحت إجراءات قمعية تشمل الضرب وعصب الأعين والجنزير.

وفقًا لشهادة العش: “يُنفَّذ الإعدام شنقًا حتى الموت، على دفعات تضم كل منها سبعة أشخاص. تُعلّق الجثث ثم تُفلت وتُترك في غرفة جانبية، وقد تبقى هناك أيامًا قبل أن تُنقل إلى ساحة السجن الخارجية بانتظار شاحنة أو براد لنقلها إلى المقابر الجماعية”.

من عصب العيون إلى شدّ الحبل

تشترك جميع الوثائق الصادرة عن إدارة سجن صيدنايا بشأن تنفيذ أحكام الإعدام تضمينها عبارة متطابقة، تؤكد على أن عمليات الإعدام يجب أن تُنفذ بمنتهى السرية.

ويُشار صراحةً في كل وثيقة إلى اسم ضابط أو مساعد مكلّف بتنفيذ القرار، مع تكليف مباشر يُعيد التأكيد على ضرورة الالتزام بالسرية التامة.

وتُظهر الوثائق السرّية الصادرة عن إدارة سجن صيدنايا في عامي 2019 و2020 قوائم تفصيلية بأسماء عشرات الضباط والمجندين، كُلّف كل منهم بمهام دقيقة ضمن منظومة الإعدام. 

في كل لجنة عدد أعضاء يتراوح بين 14 و16 من الحراس والآمرين. تشمل مهامهم: عصب أعين المعتقلين قبل إخراجهم من الزنازين، تثبيت القيود، التحقق من الهويات، التأكد من جهوزية المكان وحبل المشنقة، والتوثيق الطبي لعملية الوفاة.

غالبًا ما يُذكر اسم ضابط أو مساعد يُكلف بـ”تنفيذ القرار بمنتهى السرية في الزمان والمكان المحددين”، كما هو وارد نصًا في الوثائق. وتحمل توقيع مدير سجن صيدنايا، ومذيّلة باسم طبيب ملازم ضمن اللجنة.

وعادة ما يكتنف الغموض هوية مدير سجن صيدنايا، لكن العديد من المصادر بما فيها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تشير إلى أن مديري سجن صيدنايا ما بين عامى 2019 و2020، وهو تاريخ الوثائق التي حصل عليها فريق التحقيق، هما العقيد وسيم سليمان حسن ثم العميد أسامة محمد العلي.

وشغل العقيد وسيم حسن المنحدر من ريف اللاذقية، منصب مدير السجن منذ العام 2017 حتى العام 2020، وخلفه العميد أسامة العلي، المنحدر من ريف طرطوس عام 2020 حتى سقوط نظام الأسد.

في أحد الأوامر الصادرة بتاريخ 16 كانون الثاني/يناير 2020، يظهر اسم “المساعد يزن م”  (ورد اسمه في وثائق تنفيذ الإعدامات) كعنصر مكلّف بمهمات عصب العيون قبل تنفيذ حكم الإعدام. وفي وثيقة أخرى، يظهر توقيع الطبيب “عامر ت”، طبيب أسنان ورد اسمه بصفته الطبيب المرافق فرقة الإعدام.

عيادة طب الأسنان في سجن صيدنايا، 12 شباط/ فبراير 2025 ، سراج.

 

وحول المسؤولية القيادية، تقول بيلينتاني إن “أوامر الإعدام الموقعة من قبل مسؤولين كبار والتي تحمل أسماءهم وتواقيعهم، يمكن أن تشكل دليلاً قوياً على: علمهم بعمليات الإعدام؛ ومساهمتهم في العملية الإجرامية؛ ووجود سياسة ممنهجة تقف خلف هذه الأفعال”. وهو ما قد يسمح بالتالي في تحميلهم “المسؤولية الجنائية”، بموجب القانون الجنائي الدولي.

 

من على منصة الموت إلى شاشة التلفزيون 

توكل لكل لجنة إعدام بموجب قرار مدير السجن مهمة تنفيذ أحكام الإعدام بحق السجناء مع إمكانية تنوع مهام بعضهم. 

مثلاً المساعدين “مضر ع” و”يزن م”، بموجب نص قرار تشكيل لجنة الإعدام لعامي 2019 و2020 كلفا بمهمة عصب عيون الموقوفين قبل تنفيذ أحكام الإعدام الجماعية.

فيما تولى المساعد “مضر ع” مهمة اخرى لم تقتصر على عصب عيون الموقوفين وقت تنفيذ الإعدام، بل امتدت إلى استلام جثث المعتقلين العائدة من المستشفيات العسكرية. 

عاين فريق التحقيق ثلاث وثائق تضم لجان الإعدام أعوام 2019 و2020 و2021، علي التوالي، وتظهر تكرار بعض الأسماء في أكثر من لجنة، بما يعكس وجود هيكلية ثابتة في  التعيينات. 

من بين الأسماء المتكررة، يبرز اسم المجند “محمد م”، والرقيب رمضان العيسى، اللذين ظهرا في لجنتين مختلفتين. العيسى ظهر مؤخراً في مقطع فيديو صادر عن وزارة الداخلية في الحكومة السورية أدلى فيه باعترافات حول جرائم ارتكبها خلال عمله في سجن صيدنايا

كما تكشف الوثائق عن مسار ترقيات لبعض المشاركين في لجان الإعدام، الأمر الذي يوحي بارتباط مباشر بين عملهم في هذه اللجان وتقدمهم الوظيفي. على سبيل المثال، يظهر اسم “يزن س” الذي شغل رتبة عريف في لجنتي الإعدام لعامي 2019 و2020، قبل أن تتم ترقيته إلى رتبة رقيب ويشارك في لجنة الإعدام المشكلة عام 2021.

تواصل فريق التحقيق مع 12 عضواً من أعضاء لجنتي الإعدام عبر تطبيقات دردشة مثل “فيسبوك ماسنجر” و”واتساب” بهدف التعرف عليهم ومطابقة هوياتهم مع الأسماء الواردة في قرارات تشكيل اللجان. 

المجنّد “أمجد ع”، أنكر هويته تمامًا وادّعى أنه شخص آخر، وقام بحظر الصحفي عبر “فيسبوك” ثم قام بتغيير اسم حسابه.

الشخص الثاني، والذي تجاوب مع رسائلنا، كان الطبيب الملازم “عامر ت”، وهو طبيب أسنان ورد اسمه ضمن لجنة الإعدام لعام 2020. 

عضو آخر يعمل طبيباً، ورد اسمه في لجنة الإعدام لعام 2019، أبدى أيضاً تجاوباً مع فريق التحقيق، حيث قدّم اعترافاتٍ حاسمة، شرط عدم ذكر اسمه. 

وكان كلا الطبيبين يُؤديان الخدمة العسكرية في سجن صيدنايا كما قالا لمعدي التحقيق. وأكّدا أنّهما تواصلا مع السلطات السورية الجديدة فور وصولها إلى العاصمة دمشق.

الطبيب الأول، وهو طبيب الأسنان “عامر ت”، أنكر أن تكون مهمّته فحص الجثث بعد تنفيذ حكم الإعدام، بل ادّعى أن مهمّته اقتصرت على فحص العسكريين (حالتهم الطبية) وجهوزيتهم قبل تنفيذ المهام الموكلة إليهم، وهي إعدام السجناء.

من اليمين الطبيب “عامر ت”، المساعد “يزن م”، والمساعد “مضر ع”، من اعضاء لجان الإعدام في سجن صيدنايا – سراج.

 

الطبيب الذي ورد اسمه في لجنة الإعدام لعام 2020، أكد أنه كان يؤدي خدمته الإلزامية كطبيب أسنان في سجن صيدنايا. ورغم تأكيده أنه “ممنوع من معرفة أي معلومات عن تنفيذ أحكام الإعدام”، إلا أنه قدّم تفاصيل دقيقة عن هوية العسكريين من فريق الإعدام الذين فحصهم، وتعرف عليهم من صورهم وتذكرهم جميعاً، بينهم المساعد أول “ضياء ع” والعريف “يزن س”، والمجند “أحمد أ”، والمجند “محمد م”، والمجند “الياس ح”، والمجند “زكريا ح”، بل وتعرف على كنى وأسماء أفراد إضافيين ممن شاركوا في التنفيذ مثل المجند “خضر ق”، و”حيان د”، (وكل هذه الأسماء أدرجت ضمن قرار لجنة مكلّفة بتنفيذ أحكام الإعدام في الوثائق الرسمية).

الكرسي الخاص وعيادة طب الأسنان في سجن صيدنايا، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

وأوضح أن تنفيذ أحكام الإعدام كانت تتم بحسب معرفته بحضور أشخاص من فرع الأمن العسكري ورئيس المنطقة، وقُضاة من محكمة الميدان العسكري وطبيب شرعي من المستشفى العسكري.

عند سؤاله عن شعوره حيال مشاركته بفحص عسكريين قبل تنفيذ أحكام إعدام قال: “أنا لم أختر وجودي في هذا المكان ولو خيّروني لما قبلتُ به. بالتأكيد كان شيئًا مزعجًا ولكن لا يمكنني التحدّث عن ندم بالأمر لأن الطبيب يفضّل أن يخدم المجتمع بعيدًا عن أي فوضى وخاصةً أنني لا أعرف جرم المحكوم ولا حيثياته”.

واعتبر أن حكم الإعدام لا يُنفّذ إلّا في حال كان المحكوم قد ارتكب جرم القتل حسب زعمه، أما ما وصفها بـ “المخالفات العادية” فتنتهي بالسجن لمدة معينة وفي بعض الأوقات بعفو معين.

لكن عشرات الوثائق الموقّعة باسم القائد العام (بشار الأسد) تكشف أن معظم الأسماء هم مدنيون اعتُقلوا على خلفية أمنية، بينهم طلاب ونساء ومجندون سابقون، ما يناقض شهادة “عامر ت”.

وتظهر وثيقة اطلع عليها فريق التحقيق من منظمة “أرشيف الثورة السورية” أمراً صادراً عن وزير الدفاع الأسبق في نظام الأسد علي عبد الله أيوب بتفويض من رئيس النظام بشار الأسد بإعدام 18 شخصاً بتهم التحريض على الإرهاب أو القيام بأعمال إرهابية، مع تنفيذ أحكام الإعدام في سجن صيدنايا، حيث تكشف الوثيقة عن البنية الكاملة والإجراءات المتبعة في عمليات الإعدام، وهذه الوثيقة هي واحدة من عشرات اطلع عليها فريق التحقيق.

كما أنكر طبيب الاسنان أن يكون قد تم تنفيذ حكم الإعدام بحق أي معتقل سياسي في سجن صيدنايا، حسب تعبيره، زاعمًا أنه يتوقّع بنسبة 99% أن من تم إعدامهم كانوا قد ارتكبوا جرائم قتل أو مجازر مروّعة. 

وتابع في محضر دفاعه عن عمل سجن صيدنايا قائلًا: “مستحيل أن يدخل أحد للسجن إلّا بأمر قضائي”. 

 

وعند سؤاله عن العائلات التي فقدت أولادها في سجن صيدنايا من دون أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم قتل، وقاموا بحفر أراضي السجن بحثًا عن أولادهم عند سقوط النظام، اعتبر أن ذلك يعود لـ “الضخ الإعلامي المضلل”. معتبراً أن “من المستحيل أن يدخل أحد للسجن من دون جناية”. 

 

وقال: “المعتقلون السياسيون قد يكونوا فُقدوا في أفرع الأمن”، لافتًا إلى أن السجناء السياسيين محكمتهم مدنية وليس فيها أي مخالفة تسبب حكم إعدام.

فريق التحقيق يتحدث مع الطبيب وعضو لجنة الإعدام في سجن صيدنايا “عامر ت”، آب/ أغسطس 2025.

هذا الادعاء يتجاهل الحقائق والتقارير الموثقة من قبل منظمات حقوقية وتقارير الأمم المتحدة التي تؤكد أن آلاف المعتقلين السياسيين في سوريا تعرضوا لمحاكمات صورية أمام محاكم ميدانية أو محكمة الإرهاب، من دون اتباع الإجراءات الواجبة، ولم يُفصح لأسرهم عن وفاتهم. ولم يُسمح لأي جهة وطنية أو دولية بالوصول إلى صيدنايا أو غيره من سجون النظام السابق حتى سقوطه.

 

وهذا ما تؤكد عليه المحامية السورية حلا ابراهيم، عضو رابطة المحامين السوريين الأحرار، والتي تتابع ملف اعدامات صيدنايا عن كثب، ومن موقعها في إحدى المنظمات الحقوقية في سوريا. إذ تشدد على أن الأحكام الصادرة عن محكمة الميدان لا تخالف فقط القوانين الدولية، بل كذلك الدستور السوري الذي كان معمولاً به آنذاك، والذي يكفل في المادة 28 حق المحاكمة العادلة وشروطها وهو ما كان غائباً بشكل كامل عن هذه المحاكمات الصورية التي تُبنى على اعترافات انتزعت تحت التعذيب.

 

بدوره أشار طبيب الأسنان “عامر ت” في حديثه مع الصحفيين، إلى أنه بعد ثلاثة أيام من تحرير سوريا تواصلت معه “إدارة العمليات العسكرية” لمعرفة هندسة السجن، وأنه تعاون معهم وزوّدهم بكل المعلومات. وأوضح لهم أنه طبيب مجنّد خدم مدّة إلزامية في سجن صيدنايا. وقال: “تحدّث معي العميد أبو خالد من رقم خاص وطلب المساعدة لمعرفة ما إذا كان هناك سراديب سرية في السجن، وأعطوني الأمان وقمت بشرح هندسة السجن لهم، كما أنهم عرضوا عليَّ مكافأة مالية مقابل المعلومات لكنني رفضت ذلك”.

 

بدورها، نفت وزارة الداخلية السورية، في ردها على أسئلة فريق التحقيق، ما أورده الطبيبان عن تواصلهما مع “غرفة العمليات العسكرية” عقب سقوط النظام، معتبرة أن كلامهم “كذب” ويهدف لتشويه سمعة الحكومة، والتهرب من مسؤوليتهم في الانتهاكات.

 

وأوضح المتحدث باسم الوزارة، نور الدين البابا، “أن أعداد المتورطين في الانتهاكات في سجن صيدنايا تصل إلى المئات، وأن الوزارة تعمل على تقديمهم جميعاً للعدالة، وتعمل بكل طاقتها للقبض على المتورطين”، كاشفاً عن “أنّ سبب عدم تقديم البعض منهم إلى العدالة بعد، يعود لتواريهم عن الأنظار داخل سوريا، أو هروبهم خارج البلاد”. مشيراً إلى أن العديد منهم موقوفون في السجن بانتظار استكمال التحقيقات.

المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا – المكتب الصحفي لوزارة الداخلية.

في نفس السياق، تعتقد المحامية حلا إبراهيم أن مقاربة الحكومة الانتقالية لملف المحاسبة والعدالة الانتقالية لا زالت تعتمد على مقاربة أمنية أو سياسية، فيما يتطلب هذا الملف نهجاً حقوقياً شاملاً والتأكيد على أن عملية المحاسبة ليست عملية انتقامية بل مسار قانوني لصالح المجتمع السوري. 

 

الطبيب الآخر في سجن صيدنايا، والذي ورد اسمه في اللجنة المشكلة عام  2019، تردّد بالحديث معنا لأسابيع، قبل أن يوافق في نهاية المطاف، مشترطًا عدم ذكر اسمه خوفًا من عمليات قتل خارج القانون، وقال أنه كان “طبيبًا للموقوفين القضائيين وكانت خدمتي إلزامية”. 

 

موضحاً أن دوره في لجنة الإعدام كان يأتي بعد تنفيذ الحكم. 

 

إذ كانت “إدارة الخدمات الطبية” التابعة للجيش السوري تنقل الجثث بسيارة من غرفة الإعدام إلى المستوصف الذي كان يعمل فيه في سرية صغيرة داخل سجن صيدنايا، ليقوم بـ “فحص الحيويات” وتأكيد وفاة الجثث التي تم تنفيذ حكم الإعدام فيها.

 

وبدأ الطبيب خدمته العسكرية  في المشفى العسكري 601، وتم نقله لاحقاً الى سجن صيدنايا. 

 

وأضاف “لقد أكّدت عملية الوفاة لأشخاص تم إعدامهم شنقًا مرتين. الأولى كانت لمجموعة معتقلين تم نقلهم إليَّ بعد إعدامهم وكان عددهم 17 -18 جثّة، وقمت فقط بتأكيد وفاتهم بعد وقوع الإعدام، ثم أخذتهم “إدارة الخدمات الطبية” لتتكفّل بعملية دفنهم”. 

 

أما المرّة الثانية، فكانت “لسجين قضائي مدني كانت تهمته قتل واغتصاب بموجب محكمة مدنية، حيث كانت أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم المدنية تُنفّذ في سجن صيدنايا أيضًا”.

مشيرًا إلى أنه خلال تنفيذ حكم الإعدام، كانت تأتي لجنة من خارج السجن لتنفيذ حكم الإعدام، وأن “إدارة الخدمات الطبية” هي المسؤولة عن التنفيذ والدفن “بعد عرض من تم إعدامهم عليَّ لتأكيد وفاتهم”.

وأنه “خلال تنفيذ حكم الإعدام كان يأتي أشخاص من الخارج”، موكداً علي دور اللجنة المشرفة. 

يقول: “أنا بقيت لمدة عام في سجن صيدنايا وكان هناك نظام للإعدام تم وضعه منذ عشر سنوات”.

واعتبر الطبيب نفسه أنه “أصغر شخص في هرم عسكري كبير”، وأنه كان يتلقّى أوامر لتأكيد الوفاة فقط، لافتًا إلى أن دوره يأتي بعد تنفيذ الإعدام.

الممر المؤدي لغرفة الاعدام في سجن صيدنايا، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

كتائب إعدام يقودها أطباء 

بتاريخ 1 أيار/مايو 2021، تم تشكيل ما يُعرف بـ”كتائب الإعدام” داخل سجن صيدنايا، كل كتيبة مؤلفة من ثمانية عناصر، بينهم مساعد يدعى “إياد ع”، وطبيب مكلّف بالإشراف على عمليات الإعدام يُدعى “لجين م”. ويكتسب ذكر الطبيب أهمية خاصة، إذ لا تشير وثائق اطلعنا عليها بالتعاون مع صحيفة زمان الوصل، إلى أطباء شرعيين، بل إلى أطباء اختصاصيين – في مجالات كالعيون أو الأسنان – جرى استدعاؤهم ضمن فرق التنفيذ، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة الدور المنوط بهم..

 تُظهر وثيقة تعود إلى عام 2022 تتعلق بـ”مكافآت” لعناصر هذه الكتائب، ما يعزز مصداقية وجودهم ودورهم داخل السجن. وتشير السجلات إلى أن عام 2021 وحده شهد تشكيل أكثر من ثماني كتائب إعدام في صيدنايا، ضمّت نحو 90 شخصًا بين ضابط وجندي وطبيب، جرى استدعاء بعضهم من الشرطة العسكرية خارج السجن لتغطية كثافة عمليات الإعدام.

لكن بحسب فيرونيكا بيلينتاني، من البرنامج السوري للتطوير القانوني، فإن “العاملين في المجال الطبي الذين يشاركون في توثيق أو تسهيل أو الإشراف على تنفيذ الإعدامات يتحملون مسؤولية جنائية بموجب القانون الجنائي الدولي”. إذ إن “مشاركتهم”، كما تضيف، “سواء كانت نشطة أو سلبية، قد تفضي إلى مسؤوليتهم الفردية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وذلك بحسب ظروف تورطهم”.

 

رجال يحملون حبال المشنقة التي عثر عليها في سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق يوم الثلاثاء 9 أيلول/سبتمبر 2025 – سراج.

منصة الإعدام

في صباح 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، كان من المفترض أن يُعدم الشاب غازي المحمد مع 54 معتقلًا آخر داخل سجن صيدنايا. لكن قبل تنفيذ الحكم بساعات، فرّت حامية السجن عقب انهيار النظام وهروب بشار الأسد إلى موسكو. نجا غازي من الموت، بينما كان حبل المشنقة قد خطف آلافًا قبله.

ورغم أن غازي كُتبت له حياة جديدة، إلا أن آلافاً قبله لم يحالفهم الحظ بالنجاة، ومنهم شقيق الشابّة حياة التركي، مع خمسة من أقاربها، إذ لم تجد لهم أي أثر، بعد سنوات طويلة من اعتقالهم، رغم بقائها لأربع أيام داخل سجن صيدنايا تحاول معرفة مصيرهم، وتعتقد أنه تم إعدامهم.

لكنها لم تجد إلا الصمت والفراغ وآثار من ماتوا من دون شاهد أو قبر.

هروب واختفاء أعضاء لجان الإعدام المسؤولة عن تصفية مئات السجناء بدَّد آخر آمال حياة بمعرفة مصير ذويها، أو محاكمة سجّانيهم في مرحلة العدالة الانتقالية التي تمر بها سوريا. 

ورغم أن غازي كُتبت له حياة جديدة، إلا أن آلافاً قبله لم يحالفهم الحظ بالنجاة، ومنهم شقيق الشابّة حياة التركي، مع خمسة من أقاربها، إذ لم تجد لهم أي أثر، بعد سنوات طويلة من اعتقالهم، رغم بقائها لأربع أيام داخل سجن صيدنايا تحاول معرفة مصيرهم، وتعتقد أنه تم إعدامهم.

لكنها لم تجد إلا الصمت والفراغ وآثار من ماتوا من دون شاهد أو قبر.

هروب واختفاء أعضاء لجان الإعدام المسؤولة عن تصفية مئات السجناء بدَّد آخر آمال حياة بمعرفة مصير ذويها، أو محاكمة سجّانيهم في مرحلة العدالة الانتقالية التي تمر بها سوريا.

حياة التركي تقف وسط أغراض متناثرة داخل إحدى زنازين سجن صيدنايا، حيث قضت أربعة أيام بحثًا عن شقيقها وخمسة من أقاربها، من دون أن تجد لهم أثرًا. 9 كانون الأول/ديسمبر 2024 – سراج.

داخل غرفة الإعدام في صيدنايا

تمكّن فريق التحقيق من معاينة ما يُعرف بـ”غرفة الإعدام”. تقع الغرفة في القسم السفلي من ما يُعرف بـ”البناء الأبيض” داخل مجمع سجن صيدنايا العسكري، وتحديدًا خلف الباب المحترق المطلّ على الفناء الجنوبي الشرقي للمبنى. يؤدي مدخلها إلى درج قصير من ثلاث أو أربع درجات يفضي إلى ممر ضيق تنفتح على جانبيه الزنزانات الصغيرة التي كانت مخصصة للمحكومين بالإعدام.

في نهاية الممر، تمتد الغرفة الرئيسية التي حُوّلت على مرّ السنوات إلى مسرح لعمليات الشنق الجماعية. لا تزال آثار الحريق ظاهرة على الجدران والأسِرّة الحديدية ذات الطابقين، فيما تبقى المنصتان الخشبيتان اللتان كانت تتم عليهما عمليات الإعدام في مكانهما، تتقدمهما سلالم قصيرة من ثلاث درجات — تمامًا كما ورد في الرسومات التخطيطية التي وثّقتها منظمات حقوق الإنسان الدولية.

تشير الشواهد الميدانية إلى أن السجناء كانوا يُساقون إلى هذه المنصات ليُعلّقوا من السقف، حيث كان الجلادون يسحبون أجسادهم لتسريع موتهم عبر كسر العنق. وتدلّ العلامات المتفحّمة وبقايا الحبال المعدنية على الاستخدام المكثّف للغرفة، التي تحوّلت إلى شاهد صامت على واحدة من أكثر مراحل العنف الممنهج في سجون النظام السوري السابق.

ما تبقّى من غرفة الإعدام في سجن صيدنايا بعد حرقها، كانون الأول/ديسمبر 2024، حصري – سراج.

متى تُحاكم فرق الإعدام؟

في عام 2017، خلص تقرير لـ منظمة العفو الدولية يوثق الإعدامات الجماعية والإبادة في سجن صيدنايا إلى أن جثث المعتقلين الذين أعدموا أو توفوا تحت التعذيب وظروف الاحتجاز اللاإنسانية في ذلك السجن دُفنت في مقابر جماعية، منها أحد المواقع التي زارها فريق التحقيق بعد سقوط النظام في كانون الأول/ديسمبر 2024. 

عمليات الإعدام والإخفاء القسري لم تكن قرارات فردية، بل سياسة ممنهجة أشرفت عليها أعلى المستويات الأمنية والعسكرية في نظام الأسد. 

يقول فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “تستوجب هذه الجرائم مساءلة قانونية دولية بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تصنف ضمن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب”.

وحول إمكانية الملاحقة القضائية، تشدّد بيلينتاني على أن “الولاية القضائية العالمية تتيح للدول الأوروبية محاسبة الجناة، حتى في حال عدم وقوع الجرائم على أراضيها، شريطة توفر أدلة كافية وتواجد المتهمين داخل نطاقها القضائي”.

جميع الوثائق الرسمية المتعلقة بأحكام الإعدام ذيّلت بتوقيع “الفريق بشار الأسد” بصفته القائد العام، وتفويض العماد علي عبد الله أيوب وزير الدفاع. ما يشكل دليلًا أوليًا على علم ومشاركة القيادة العليا في هذه الإعدامات، وفقًا لخبراء القانون الدولي.

غرفة تبريد ومقابر جماعية تبتلع الأدلة

في الممر المعتم المؤدي إلى غرفة التبريد في الطابق السفلي من السجن، تتناثر ملابس المعتقلين وأغراضهم الشخصية إلى جانب الأغطية العسكرية المستعملة. تنتشر بدلات الإعدام البرتقالية بمقاسات مختلفة — صغيرة (S)، متوسطة (M)، وكبيرة (XL) — على أرضية الممر وفي الزوايا وعلى الأدراج المعدنية المؤدية إلى الغرفة.

عندما زار معدو التحقيق المكان في شهر شباط/فبراير، كانت برودة الطقس تضيف طبقة إضافية من الصقيع إلى أجواء غرفة التبريد، التي بُنيت على عجل داخل السجن بعد ازدياد وتيرة الإعدامات وتكدّس الجثث.

بدلات إعدام برتقالية اللون داخل سجن صيدنايا، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

إذ تُظهر وثيقة تعود إلى نيسان/أبريل 2014، وهي “مذكرة عرض” صادرة عن قائد الشرطة العسكرية اللواء أكرم سلوم العبدالله، طلب تجهيز غرفة لحفظ جثث الموقوفين المتوفين داخل السجن، بسعة لا تقل عن خمسين جثة، بسبب صعوبات نقلها إلى المشافي.

وقد رُفعت المذكرة مباشرة إلى رئيس هيئة الأركان حينها، العماد علي عبد الله أيوب، الذي وقّع عليها بالموافقة، ما يُشير مرة أخرى إلى علم القيادات العليا بهذه الممارسات، بل ومباركتها.

وثيقة رسمية صادرة عن مدير السجن العسكري الأول في صيدنايا، تطلب إنشاء غرفة تبريد تتسع لخمسين جثة، بسبب “تزايد عدد الوفيات داخل السجن” وصعوبة نقل الجثث إلى المستشفيات. الوثيقة رُفعت إلى هيئة الأركان، ووافق عليها رئيسها، ما يُظهر علم القيادات العسكرية العليا بحجم الإعدامات والوفيات داخل السجن – سراج.

 

وتقول آية مجذوب، نائبة المديرة الإقليمية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية: “تشكّل الإعدامات خارج القضاء والقتل بإجراءات موجزة انتهاكات خطيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وقد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية عندما تُنفَّذ ضمن هجوم منهجي أو واسع ضد سكان مدنيين، بموجب سياسة الدولة أو المنظمة لارتكاب مثل هذا “الهجوم” أو تعزيزاً لمثل هذه السياسة”.

ووفقاً لـ”منظمة العفو الدولية” فإن تطبيق الإعدام في سوريا ينتهك المعايير الدولية لحقوق الإنسان، حيث يخالف المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تحصر الإعدام بالجرائم الأشد خطورة، وتشترط محاكمة عادلة.

بدلات إعدام برتقالية اللون داخل سجن صيدنايا، 12 شباط/ فبراير 2025، سراج.

وبتدقيق وثائق رسمية من سجن صيدنايا العسكري، توصّل “مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين” إلى أن عدد أحكام الإعدام المنفذة داخل السجن بحق المعتقلين من الثوار بلغ 15,347 حكمًا، صدرت عبر المحكمة الميدان العسكري ومحكمة قضايا الإرهاب وحدها، من دون احتساب الوفيات الناتجة عن التعذيب أو الإهمال الطبي أو الأمراض، والتي يُقدّر أنها تفوق هذا الرقم بأضعاف.

طقوس موت جماعي

محمد فارس وعدنان من بين ثمانية سجناء تحدثت إليهم “سراج” ممن أُطلق سراحهم من سجن صيدنايا. زود فارس فريق التحقيق بقائمة تضم أسماء 65 شخصاً تم إعدامهم في شهر تموز/يوليو من العام 2021.

ظرف يضم أسماء معتقلين تم إعدامهم منتصف تموز/ يوليو 2021، حصري – سراج.

حُكم على فارس بالإعدام من دون أن يمثُل أمام المحكمة. يقول: “لقد نجيت من الإعدام بعد دفع عائلتي 100 ألف دولار لتخفيف الحكم للمؤبد”. ويضيف: “كل شيء في سجن صيدنايا كان للبيع، حتى الأرواح.”

يقول مروان العش، العضو في مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين: “كل شيء يتم بسرية صارمة. لا تُسلَّم الجثث للأهالي، ولا يُسمح بأي مراسم دفن. يُسجَّل الموت على الأوراق، وتُدفن الأجساد في الأرض من دون أثر.”

وثيقة رسمية توثق عدد المعتقلين في سجن صيدنايا قبيل سقوط النظام، تاريخ 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.

تقديرات وأرقام العش تذكر أنّ هنالك 300 ألف شخص مختفٍ قسراً على خلفية أمنية في سوريا بين عامي 2011 و2024، دخل منهم قرابة 90 ألف معتقل إلى سجن صيدنايا، وأن الأعداد الناجية من سجن صيدنايا لا تتجاوز 4,200 معتقل.

تقول المستشارة الإعلامية في الهيئة الوطنية للمفقودين، زينة شهلا: “إنّ اللجنة لا تمتلك تقديرات حول أعداد المفقودين في السجن كونها لا زالت في المراحل الأولية من الإعداد لنظامها التأسيسي”، وأن “اللجنة تضطلع بمسؤولية كشف مصير المفقودين في مختلف المعتقلات ومنها صيدنايا عبر الاعتماد على الوثائق والمقابلات الجماعية ومختلف السبل التوثيقية”.

وكانت الحكومة السورية الجديدة، قد شكلت في أيار/مايو الماضي، بموجب مرسوم، هيئة للمفقودين على مستوى الدولة، وهي هيئة سوريّة مستقلة تهدف إلى الكشف عن مصير عشرات آلاف الأشخاص المفقودين والمغيبين قسرًا في البلاد، وإنصاف ذويهم.

الدور الخفي للأطباء في طمس الأدلة

لم تنتهِ الانتهاكات بحق ضحايا الإعدامات في سجن صيدنايا عند لحظة سقوطهم من على منصة الشنق، بل استمرت بعد الموت، عبر منظومة معقدة هدفت إلى إخفاء الحقيقة وتزوير الهوية. فبعد تنفيذ الإعدامات، كانت الجثث تُنقل إلى المشافي العسكرية، حيث يجري تحويلها إلى مجرد أرقام في سجلات رسمية تُخفي وراءها الجرائم الحقيقية.

تكشف وثائق رسمية اطّلع عليها فريق التحقيق عن تورط أطباء وضباط في مشفى تشرين العسكري بدمشق في استقبال عشرات الجثث القادمة من الأفرع الأمنية والسجون، وتسجيل أسباب وفاة مزوّرة مثل “توقف القلب والتنفس” أو “احتشاء عضلة قلبية”، في حين أن السبب الحقيقي كان الإعدام شنقًا.

من بين الأسماء البارزة التي تظهر في الوثائق، العميد الطبيب إسماعيل جادالله كيوان، الذي تشير وثائق تعود إلى فترة تقل عن أربعة أشهر ضمن عام 2016 إلى أنه تسلّم من الأفرع الأمنية أكثر من 82 جثة لمعتقلين، وسجّل سبب الوفاة في جميع الحالات تقريبًا على أنه “توقف القلب المفاجئ”.

 كما توضح الوثائق أن كيوان استلم في الفترة ذاتها 746 معتقلاً بحالة حرجة نتيجة التعذيب، ظل معظمهم مجهولي المصير. وبالنظر إلى أن هذه الوثائق تغطي فترة قصيرة فقط من خدمته التي امتدت 14 عامًا، تُقدّر المصادر أن العدد الفعلي للحالات التي تعامل معها قد يتجاوز 10 آلاف معتقل وجثة.

إذ لم يقتصر دور كيوان على مشفى تشرين، بل تشير الوثائق إلى ارتباطه المباشر بعمليات ترقيم الجثث في مشفى 601 العسكري، أحد أهم مراكز استقبال ضحايا التعذيب في دمشق. ومع سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، فرّ كيوان من المشفى، تاركًا خلفه سجلاً مثقلاً بالأدلة على تورط الطواقم الطبية في واحدة من أفظع الجرائم المنظمة لإخفاء الحقيقة في تاريخ سوريا الحديث.

البوابة الرئيسية لمشفى تشرين العسكري بدمشق، 17 أيلول/ سبتمبر 2025، سراج.

اطّلع فريق التحقيق على دفتر السجلات الخاصة بمشفى تشرين العسكري في دمشق، والذي يتضمن قوائم بأسماء المعتقلين الذين نُقلوا إلى المشفى من الأفرع الأمنية. تُكتب إلى جانب اسم كل معتقل وصل متوفى كلمة “جثة” فقط، من دون أي إشارة إلى سبب أو ظروف الوفاة، في محاولة واضحة لطمس الأدلة وإخفاء الحقيقة.

كما أظهرت السجلات أسماء عدد من الأطباء والممرضين الذين يُشتبه بتورطهم في هذه العمليات، من بينهم مدير المشفى مفيد درويش، والطبيب الشرعي أكرم الشعار، إلى جانب عدد من أفراد الكوادر الطبية والإدارية الذين شاركوا في توثيق الحالات أو الإشراف على تسلّم الجثث.


  • ساهم في إعداد التحقيق: أحمد الحاج بكري وعُمر البم. 

  • التنسيق الإبداعي والحلول البصرية: رضوان عواد.

  • يتحفظ فريق التحرير في وحدة “سراج” على ذكر الأسماء الكاملة لاعضاء فرق الإعدام  في سجن صيدنايا، وكذلك تم تمويه الوجوه، حفاظاً على المصلحة العامة، ومنعاً لأية أعمال انتقامية خارج نطاق القانون، وتماشياً مع مسار العدالة الانتقالية في سوريا.


اترك تعليقًا

التسجيل غير مطلوب



بقيامك بالتعليق فإنك تقبل سياسة الخصوصية

لا يوجد تعليقات