Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit

“الأخضر بيَدِ الأسد”.. كيف جنّد النظام السوري جواسيساً للإيقاع بالمتعاملين بالدولار؟

طوَّع نظام الأسد شبكة مخبرين ومجموعة قوانين لاحتكار امتلاك العملات الأجنبية، عبر تعقب واعتقال كل من يتعامل بالدولار الأمريكي أو غيره من العملات الأجنبية، عقب المرسوم 3 للعام 2020، الذي جرّم فيه التعامل بأي عملة غير الليرة السورية، ما ساهم بزيادة القبضة الأمنية على من يمتلكون أي مبالغ من العملات الأجنبية، ووضعهم بخيارات تقاسمها مع سلطة الأسد أو الملاحقة الأمنية.

في أواخر عام 2023 وفي حي المالكي في العاصمة دمشق، صعدَ رجلٌ داخل سيارة من نوع شيفروليه خمرية اللون ليجتمع مع سائقها بهدف تبديل العملة السورية مقابل الدولار الأمريكي. كان سائق السيارة نشطاً كمندوب حوالات مالية في تلك المنطقة، وكان يعمل بحذر مع زبائنَ يريدون تصريف عملات أجنبية إلى الليرة السورية، ولا سيما الدولار.

كان عمله “الأشبه بالانتحار” يلقى رواجًا، لأن تصريف العملة الأجنبية عن طريق القنوات الرسمية لا يتوازى مع سعرها الحقيقي في السوق السوداء، وكذلك الحال فإن غالبية من لديهم عملة أجنبية (ولا سيما الدولار واليورو) ويريدون بيعها، أو حتّى يريدون شراءها يلجؤون إلى السوق السوداء، لإبعاد الشبهات عنهم، ولا سيما مع وجود عدّة قوانين جرّمت تداول الدولار أولًا ثم جرّمت امتلاكه.

رغم التضييق الأمني ومحاولات النظام لتجريم التعامل بالدولار وغيره من العملات، لم يكن سائق السيارة يعلم أنّ الزبون الذي استقل سيارته هو عنصر تابع لفرع المخابرات العسكرية 251 (فرع الخطيب).

خلال عملية تبادل العملات، التقط “المخبر” صورة للمندوب وهو في السيارة وأرسلها للمسؤول عنه في الفرع عبر تطبيق “واتساب” للرسائل الفورية، ثمّ انتهت صورة هذه الرسالة في وثيقة موقعة من رئيس الفرع 251 وموجهة إلى القسم 40، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، تأمر بتوقيف مندوب الحوالات وتقديمه “بشكل فوري” إلى أحد أقسام الشرطة ومصادرة الهواتف التي في حوزته، وذلك “بالسرعة القصوى لضرورة التحقيق”. 

هذا المندوب لتصريف العملات، لم يكن الوحيد الذي تم اعتقاله، إذ جنّدت مخابرات النظام السابق الوسائل المتاحة لديها من أجل اعتقال كل من يتداول العملات الأجنبية، سواء بغرض التصريف أو حتّى في مرحلةٍ لاحقة اقتناء هذه العملات، وذلك بعد إصدار العديد من القوانين لحصر العملات الصعبة بيد الأسد.

يقول الباحث في الشؤون الاقتصادية، خالد التركاوي إن كل الإجراءات التي قام بها الأسد، كانت تهدف لابتزاز كل من يملك الدولار أو غيره من العملات الأجنبية، عبر وضعهم أمام خيارين: إمّا صرف الأموال عن طريق النظام بالسعر الذي يقرّره، أو الملاحقة القانونية، ولافتًا إلى أنّ هذه القوانين لم يكن غرضها أي معادلات اقتصادية بل تحصيل أموال لاستمرار العمل العسكري وتحقيق النصر.

ضمن مشروع “ملفات دمشق”، اطلع فريق الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية “سراج” على نسخ رقمية للعديد من الوثائق التي توضح كيف وظف نظام الأسد أجهزة مخابراته لتعقب واعتقال كل من يتعامل بالدولار الأمريكي أو غيره من العملات الأجنبية، عقب المرسوم 3 للعام 2020. والذي أصدره رئيس النظام المخلوع  بشار الأسد، وجرّم فيه التعامل بأي عملة غير الليرة السورية.

وملفات دمشق”، هو مشروع تحقيقات استقصائية تشاركي يديرهالاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) بالتعاون مع هيئة الإذاعة العامة الألمانية (NDRويضم  صحفيين من مختلف أنحاء العالم لكشف تفاصيل جديدة مروّعة حول أحد أكثر أنظمة القتل التي تديرها دولة وحشيةً في القرن الحادي والعشرين: نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.

أمضى الـ ICIJ وNDR و126 صحافي من 24 منصّة إعلامية شريكة في 20 دولة أكثر من ثمانية أشهر في تنظيم هذه الوثائق وتحليلها، واستشارة الخبراء، وإجراء مقابلات مع عائلات سورية ما زالت تبحث عن أحبائها الذين اختفوا تحت حكم الأسد.

يكشف مشروع تحقيقاتملفات دمشقعن البنية الداخلية لجهاز أمن الأسد وصلاته بحكومات أجنبية ومنظمات دولية. ويتكوّن التسريب من أكثر من 134 ألف ملف مكتوبة في الغالب باللغة العربيةما يعادل نحو 243 غيغابايت من البيانات

تغطي هذه الوثائق مدى أكثر من ثلاثة عقود، من عام 1994 حتى كانون الأول/ديسمبر 2024. وتعود أصولها إلى المخابرات الجوية وإدارة المخابرات العامة في سوريا.

وقد فُرضت على هاتين الجهتين الاستخباراتيين عقوبات واسعة من الولايات المتحدة وأوروبا بسبب ممارساتهما الوحشية، بما في ذلك التعذيب والعنف الجنسي.

وتشمل الوثائق مذكرات داخلية وتقارير ومراسلات تكشف آليات العمل اليومي لشبكة الأسد في المراقبة والاعتقال، إضافة إلى تنسيقها مع حلفاء أجانب مثل روسيا وإيران، واتصالاتها مع وكالات تابعة للأمم المتحدة تعمل داخل سوريا.

كما تتضمّن قاعدة البيانات شديدة الحساسية أسماء عدد من عناصر المخابرات السورية السابقين.

تجنيد عملاء للاستيلاء على “الدولار”

في وثيقة أُخرى، بتاريخ 16 كانون الأول/ ديسمبر 2023، أصدر رئيس فرع المخابرات العسكرية 251 أمراً للقسم 40 (فرع الخطيب) بتوقيف ثلاثة مندوبي حوالات في مناطق متفرقة من العاصمة دمشق بتهمة التعامل بالعملات الأجنبية. وتضم الوثيقة تفاصيل حول مكان عملهم الأساسي الذي يستخدمونه كغطاء لتقديم الحوالات، وصوراً التقطها عناصر المخابرات خلسة للمندوبين خلال عمليات تبادل الأموال، وتفاصيل شخصية أخرى كأرقام الهواتف وغيرها.
وكما هو الحال في الوثيقة الأولى، أضمن رئيس الفرع صور شاشة “سكرين شوت” يعتقد أنها أرسلت مباشرة من قبل العناصر المخولين بعملية التعقب والإخبار.

 

هذه العمليات لم تكن فقط بهدف تنفيذ المراسيم والقوانين الصادرة عن السلطات في النظام، بل كان لها هدف إقتصادي أوسع بكثير يهدف إلى احتكار العملات الأجنبية في البلد وتوجيهه إلى مصادر مقربة من النظام ولصالح شخصيات مقربة منه، على ما يشير الباحث المختص بالشؤون الاقتصادية خالد تركاوي.

بعد حظر تداول الدولار الأمريكي والعملات الاجنبية من قبل الأسد، أصبح السوريون يستخدمون رموزًا مشفّرة للحديث عن الدولار الأمريكي، سواء في أحاديثهم الشخصية أو عبر الهاتف، فكانوا يُطلقون عليه أسماء مثل (المغضوب، بقدونس، الأخضر والأول، وغيرها). 

ولكنَّ هذه الاستراتيجية لم تفُت أجهزة المخابرات السورية في عهد الأسد، إذ يشير أحد المستندات التي تشمل خلاصة التجسس على أرقام هواتف معيّنة إلى أن المخابرات السورية حدّدت اسم أحد الأشخاص في محافظة السويداء على أنّه يتداول الدولار الأمريكي، واستنتجت ذلك عند سؤاله عن سعر “الأول” في إشارة إلى الدولار الأمريكي، وذلك خلال التنصت على هاتفه كما يبدو.

تجريم التداول ثم امتلاك العملة الصعبة

كانت حيازة العملات الأجنبية، ولا سيما الدولار، من المحرّمات في سوريا، حتّى أن وجود مبلغ 100  دولار في جيب أحد السوريين ربما يجعله عرضةً للمساءلة، لأن حملها يُعتبر غير قانوني. 

لذلك كان العمل في تحويل العملات أو تصريفها خارج سلطة النظام السوري يُعتبر من أنواع المهن (الانتحارية) لشدّة خطورتها، ولا سيما في السنوات الأخيرة عندما اشتدَّ جوع النظام السوري لكسب المزيد من الأموال.

تم منع تداول الدولار (والعملات الأجنبية عموماً) في الأسواق السورية لأول مرة بشكل رسمي عام 1986، وذلك من خلال القانون رقم 24 لعام 1986 الذي صدر في عهد حافظ الأسد، وكان يجرّم بيع وشراء العملات الأجنبية خارج المصارف وشركات الصرافة المرخصة، وحيازة مبالغ كبيرة من الدولار دون تصريح، كما يعاقب المخالفين بالسجن والغرامات. وكان هذا القانون هو الأساس الذي بُني عليه تجريم تداول العملات الأجنبية في السوق المحلّية.

استمرَّ العمل بالقانون رقم 24 حتّى عام ،2013 عندما أصدر بشار الأسد، بعد اندلاع الثورة بعامين القانون رقم 29 لعام 2013، الذي حمل عنوان “مكافحة التعامل غير الشرعي بالعملات الأجنبية” وأهم ما جاء في هذا القانون، كان تجريم تداول العملات الأجنبية خارج القنوات الرسمية، بما في ذلك المصارف المرخصة وشركات الصرافة.

وجرّم هذا القانون أيضًا بيع أو شراء الدولار أو أي عملة أجنبية في السوق السوداء، إضافةً إلى تحويل الأموال أو المضاربة على سعر الصرف. واللافت في هذا القانون أنّه شدّد العقوبات لتصل إلى السجن بين 3 و10 سنوات حسب درجة الجرم، إلى جانب غرامات مالية كبيرة.

وفي عام 2020، شهدت الليرة السورية انهيارًا حادًّا، حيث وصل سعر صرف الدولار الواحد إلى 1000 ليرة سورية للمرّة الأولى بتاريخ الليرة، وذلك في يناير 2020 ولكن في نهاية العام، بلغ سعر صرف الدولار الواحد حوالي 3000 ليرة سورية.

هذا الانهيار دفع الأسد، في الرابع من تشرين الثاني/ أكتوبر 2020، إلى اعتبار أن السبب الجوهري لانهِيار الليرة يعود إلى حجز ودائع بمليارات الدولارات تعود لسوريين في البنوك اللبنانية، وذلك بعد “أزمة المصارف” في لبنان عام 2019.

وقال الأسد حينئذٍ، خلال زيارته لمعرض “منتجين 2020” إن “ما بين 20 و42 مليار دولار من هذه الودائع ربما فُقدت في القطاع المصرفي اللبناني، وأن هذا الرقم بالنسبة لاقتصاد سوريا رقم مخيف”، لافتًا إلى أن “الأموال أخدوها ووَضعوها في لبنان ونحن دفعنا الثمن”.

ولكن هذا التصريح لم يكن رد فعل الأسد الوحيد حينئذٍ، بل كان الأسد قد شدّد في مطلع ذات العام الخناق على السوريين الذين يملكون العملات الأجنبية، عبر المرسوم 3 للعام 2020، واستخدم للمرّة الأولى وبشكلٍ صريح عبارة “حظر حيازة العملات الأجنبية، حيث جاء في المادة الأولى منه، أنّه “يُحظر التعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري” وتم في هذا المرسوم تشديد العقوبات على نحوٍ واسع وإضافة مواد قانونية تنص على مصادرة العملات الأجنبية التي يتم تداولها.

الهيمنة على العملة الصعبة

يبدو أن النظام السوري لم يهدف من هذه القوانين إلى تنظيم تدفّق العملة في السوق، أو حتّى حماية الليرة السورية، بل لحفظ حصّة الأسد في كل دولار يدخل إلى سوريا، على ما يوضح الباحث المختص بالشؤون الاقتصادية خالد تركاوي. 

وقال تركاوي: “كل هذه القوانين كان هدفها حصر بيع الدولار بالمصرف المركزي، وكان النظام يريد أن تحدث عمليات البيع عن طريق المصرف المركزي لثلاثة أهداف”.

الهدف الأول بحسب تركاوي، هو انخفاض قيمة الليرة السورية التي لم تعد مقبولة بالاستيراد، وأصبحت الدول الأخرى تطالب حصرًا بالدولار، لافتًا إلى أنّه كان من الصعب تمويل الجيش أو دفع المستحقات للروس أو الإيرانيين إلّا بالدولار، وكذلك الحال بالنسبة للمواد الغذائية.


  • التنسيق الإبداعي والحلول البصرية: رضوان عواد.


اترك تعليقًا

التسجيل غير مطلوب



بقيامك بالتعليق فإنك تقبل سياسة الخصوصية

Marwan Al EshDecember 4, 2025 3:56 pm
#صحافة_إستقصائيه و #نظام_القتل_والتوثيق تتضمَّن #الوثائق التي عثر عليها الفريق #مستندات مكتوبة و #تسجيلات صوتيّة و #فيديوهات، و #حواسيب و #أقراص_تخزين الذاكرة، و #مُقتنيات شخصيّة لمُعتقلين سابقين" #ملفات_دمشق #الحقيقة_المرة !!! ⁨ ⁨ #ملفات_دمشق، مشروع استقصائي جديد يقوده الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ICIJ وشبكة NDR الألمانية بالتعاون مع 24 شريكًا إعلاميًا من بينهم موقع “درج”، من 20 دولة حول العالم، يكشف ما حاول نظام الأسد إخفاءه لسنوات. @ مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين SDC