Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit

“حرب الخردة”.. السلسلة السريّة لتجارة “فقراء سوريا” عبر لبنان وتركيا

في هذا التحقيق الاستقصائي المشترك بين “سراج” وصحيفة “العربي الجديد”، وجريدة “El Pais – إيل باييس” الإسبانية، نوثق رحلة الخردة السورية المتجهة من سوريا ودول الجوار إلى مصانع الصلب التركية.

وثائق حصرية تثبت تورُط القصر الرئاسي لبشار الأسد في تجارة “الخُردة” 

في يوم صيفي تقترب الحرارة فيه من 35 درجة مئوية، يعد ارتفاع أذان صلاة العصر الذي نسمع صوته من بعيد، إشعاراً للطفلين أحمد (11 عاماً) وباسل (13عاماً) باقتراب موعد التسليم. إذ قريباً ستصل سيارة لأخذ ما جناه الطفلان من قِطع الحديد والخردة التي جمعوها بأيديهم الصغيرة، وجَسديهما النحيلين خلال يوم عمل شاق بدأ الساعة السادسة صباحاً.

“جَهز الألبسة (الهدوم) لنتحرك باتجاه مكان التجميع”، يقول باسل لابن عمّه أحمد الذي يغطي الغبار وجهه، فيما تتشح يداه بالسواد بسبب ملامسة قضبان الحديد البارزة من الأعمدة والأسقف المتدلية، ليقصها بمنشاره اليدوي صغير.

نمشي معهما فتأخذنا أقدامنا إلى مكان تجميع قضبان الحديد والخردة المعدنية عبر فناء يؤدي إلى قبو تحت الأرض ضمن بناية مدمّرة بالكامل، قد أتى برميل متفجر على طبقاتها الثلاث فسواها بالأرض.

كل يوم يأتي الطفلان إلى هذه المنطقة، بعد أن يسلكا طريقهما من أحد أحياء العاصمة دمشق. يمشطان هذه الكتل من الركام والأنقاض، يدخلان في أنفاق الأقبية المفجرة، ويمُران عبر فوهات الجدران المثقوبة، ويعتليان أسقف الاسطح المنهارة بالكامل بحثاً عما قد يكون بمثابة “الكنز” بالنسبة لهما.

هنا كانت بيوت وحواضر بشرية ومساكن حولها قصف النظام السوري السابق، على مدار 14 عاماً من الثورة السورية، إلى جزر وكتل ركام من الخرسانة. تحيط بنا بقايا المنازل والمحال التجارية، وما تبقى من مظاهر تدل بالكاد على الطرق والشوارع التي كان يسلكها السكان الداخلون إلى الحي والخارجين منه.

مثل هذين الطفلين المهجرّين من دير الزور، شرق سوريا، شقّ الكثير من العاملين في مجال جمع الخردة والحديد ومعظمهم من الأطفال، طرقاً خاصة بهم عبر ممرات ضيقة تُمكنك من السير وسط الركام إلى عمق ما تبقى من الأحياء المدمرة بحثاً عن الخردة المعدنية. 

حتى سقوط نظام الأسد، كان ممنوعاً الدخول إلى المناطق المدمرة في أحياء مثل جوبر والقابون باعتبارها مناطق عسكرية، لا يحق سوى لعناصر الجيش السوري السابق، وقوات الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، الذي فر لروسيا ومن تسمح لهم من جامعي الخردة المختارين والتجار، بالدخول إليها. “كانت منطقة محظورة.. كانت الفرقة الرابعة تمنحك الإذن بالدخول إلى هنا للعمل والبيع لهم”، يقول أحد الرجال ضمن حلقة تحاصرنا خلال استراحة من البحث بين الأنقاض، ووجهه مخفي بقطعة قماش رمادية. “لا يمكنك البيع لأي شخص آخر”. يضيف الرجل.

“نُريد الحديد من أجل بيعه، وأن نأتي بثمن رغيف الخبز لإطعام أختي وأخي”، يقول أحمد لابن عمّه، وهو يقصُ قضيب حديد سميك ويلويه للأعلى والأسفل، لكي يستخرجه من الخرسانة البيتونية. ويردُ عليه باسل بالقول: “أريدُ مالاً لكي أداوي جدتي (حبّابتي). قدمُها (ساقها) مكسورة وتحتاج للعلاج”. 

تبلغُ حصيلةُ مبيعات اليوم وسطياً لكليهما بين 15 و20 ألف ليرة سورية، أيّ ما يعادل دولارين أمريكيين بمعدل سعر 500 ليرة سورية (أربعة سنتات أمريكية) للكيلو غرام الواحد في مهنة محفوفة بالمخاطر. 

الليرات السورية التي يجنيها الطفلان، قد تسدُ رمق عائلاتهم ليوم واحد في ظل غلاء الاسعار الفاحش في سوريا، وارتفاع مستويات الفقر، لكنها بالنسبة لتجار الحديد والخردة المحليّين تعني مدخولاً إضافياً  وتراكم ثروات لرجالِ أعمال شكلوا عصب النظام المالي لنظام الأسد السابق، وكانوا ضمن سلسلة طويلة وسوق كبيرة لجمع وتصدير وإعادة تدوير الخردة. 

إنها سوقٌ دولية لصناعة “الحديد والصلب” قيمتها حوالي 46 مليار دولار على مستوى العالم.   

باسل وأحمد وغيرهما كثير من الأطفال يقعون في أسفل سلسلةٍ منسوجة بترابط عبر دولٍ وشركاتٍ وأمراء حرب، ويشكلون جزءًا من تجارةٍ لا غنى عنها لتنشيط إحدى أقذَر الصناعات في العالم، “صناعة الفولاذ”.

يُحرّك الفولاذ العالم. العديد من الأدوات التي نستخدمها يوميًا مصنوعة من الفولاذ. أدوات المطبخ، والأدوات المنزلية، والسيارات والمركبات، والسكك الحديدية والقِطارات، والآلات الصناعية، والسفن التي تنقلها – كل هذه مصنوعة من الفولاذ. كما البنية التحتية التي نستخدمها، وحديد التسليح الذي يُقوّي الخرسانة، والعوارض التي تدعم مبانينا، ومعظم الأسلحة التي يُمكن أن تُدمّرها.

في الوقت ذاته، يُعدّ الفولاذ من أكثر الصناعات تلويثًا للبيئة في العالم. إذ تعتبر هذه الصناعة مسؤولة  عن 11% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية. مع ذلك، ونظرًا لكون الفولاذ مادة قابلة لإعادة التدوير بالكامل، فقد شرعت العديد من الدول في دخول هذا المجال خلال العقود الأخيرة، مع التوسع في استخدام أفران الكهرباء. 

فبدلًا من استخدام خام الحديد وفحم الكوك – وهما المادتان الخام المستخدمتان في أفران الصهر التقليدية – تَستخدم هذه الدول خردة الحديد والصلب في تصنيع الفولاذ. فهي تستهلك طاقة أقل بنسبة تصل إلى 70%، كما أنها أرخص بكثير. لذا رأت العديد من الدول التي تشهد مرحلة التصنيع المتأخر، مثل تركيا، في ذلك فرصة سانحة. 

لكن المشكلة أن موارد الخردة لجعل هذه الصناعة في أوجها نادرة، وسلاسل التوريد غير مستدامة ولا تلبي حجم الطلب العالمي.

تقول السيدة إيمان، والدة الطفل أحمد، بأسف: “أودّ أن يذهبوا إلى المدرسة. لكن إن لم يساعدوني، فلن نكسب ما يكفي لسد رمقنا”.

على مدار تسعة أشهر من العمل على هذا التحقيق الاستقصائي الدولي، تتبعنا أبرز مسارات الخردة  من سوريا من خلال صور الأقمار الصناعية، و بالاعتماد على مواقع تتبع السفن والبيانات المفتوحة المصدر التي تتيحها خدمات النقل البحري، ومنافذ البيانات التجارية العالمية. واطلعنا على وثائق حصرية، وأجرينا مقابلات مع خبراء وتجار وسماسرة ومسؤولين حكوميين.

انطلاقًا من سوريا، رسمنا بعض الطرق الرئيسية لتدفق الخردة إلى تركيا، والتي تتخذ في الغالب طريقاً غير مباشرة. إذ تصل إلى لبنان عبر طريق بيروت – دمشق، في شاحنات محملة للتصدير، لتصل الخردة في النهاية إلى ساحات الشركات التركية الخاصة، حيث يتم خلطها مع مثيلاتها من مصادر مختلفة.

كان من الصعب تتبع قيمة هذه التجارة بالأرقام داخل سوريا. فهي تجارة غير رسمية وغير موثقة بفواتير، فتقع بالكامل خارج الدفاتر المحاسبية لمن هم في أدنى سلاسل الإنتاج من جامعي خردة وسماسرة مياومين، ما يعني أنها اقتصاد أسود يغذّي ماكينة حرب.

علماً أن حجم تجارة الخردة المعدنية الدولية يبلغ 40 مليار يورو سنويًا، أي ما يزيد عن ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي (GDP) لسوريا قبل العام 2011 (16 مليار دولار سنوياً). وعلى اعتبار أنّ إنتاج الفولاذ المعاد تدويره خامس أكبر مساهم في الاقتصاد التركي. وتُندرج البلاد ضمن أكبر منتجي الفولاذ في العالم، بقيمة صادرات للفولاذ تُقدر بنحو 16.1 مليار دولار أمريكي، كان “في السنوات الأخيرة، واعتبارًا من عام 2022، ما بين 6 إلى 10% من مصدر الخردة إلى تركيا يأتي من دول تشهد صراعات مثل: سوريا، ولبنان وليبيا وأوكرانيا.

سوريا بلد الخردة !

لم تكن سوريا يومًا لاعبًا رئيسيًا في تجارة أو إنتاج الحديد والصلب. في عام 2010، بلغت صادراتها من هذا القطاع أقل من 0.02% (بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، أي ما يعادل حوالي 60 – 70 مليون دولار أمريكي. مع ذلك، توقفت هذه الصادرات مع بدء الحرب. والآن، وبشكل أساسي، لا تُصدر سوريا سوى خردة الحديد من دون أن يكون لصناعة الفولاذ حضور في البلد.

بعد عام 2015، لم تُقدم المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري أية معلومات إلى قاعدة بيانات الأمم المتحدة لتجارة السلع الأساسية حول تصدير الحديد أو الخردة، فيما كانت البيانات الوحيدة المتوفرة لدينا للاطلاع هي من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة سابقاً- من خلال إحصاءات الحكومة التركية. 

وصلت كمية الحديد المستورد لسوريا في عام 2010 حوالي مليوني طن، في حين تراجعت مع اندلاع الثورة في 2011 إلى 500 طن/سنة. وفي 2023 تراجعت كمية الحديد المستورد إلى 345 طناً/ سنة، وفق تصريح مدير عام المؤسسة العامة للجيولوجيا آنذاك، سمير أسد.

لكن عالمياً، ومع توسع استخدام الأفران الكهربائية المنزلية، وهي أرخص وأنظف من أفران الصهر القديمة، أدركت العديد من الحكومات أهمية الخردة كمواد خام ثانوية استراتيجية لصناعة الصلب لتعزيز انتاجها المحلي وتعزيز صادراتها أيضا، في حين فرضت حكومات قيودًا أو حظرت تصديرها تمامًا. 

كانت الصين السبّاقة في هذا المجال، لكن معظم الدول الآسيوية، بما فيها الهند وروسيا، ونصف الدول الأفريقية حذت حذوها. 

ووفقًا لتقرير صادر عن مركز GMK للاستشارات، “من المتوقع أن يزداد الطلب العالمي على الخردة بنسبة 50% بحلول عام 2050″، مع التحذير في الوقت نفسه من أن “الخردة ستفقد مكانتها كمنتج تصديري على المدى الطويل” بسبب “الحواجز التجارية”.

ويبدو أن الحكومة السورية الجديدة قد استشعرت خطورة الموقف وقررت التحرك. 

في 13 أيار/مايو 2025، أصدرت وزارة الاقتصاد والصناعة القرار 354 المتضمن منع تصدير خردة وسبائك المعادن بكل أنواعها، وذلك نظرًا لأهميته البالغة لإعادة إعمار البلاد. وفي تشرين الأول/أكتوبر الجاري، أصدرت الوزارة قراراً جديدًا يقضي بمنع حيازة وتداول الخردة (السكراب) التي تعود ملكيتها إلى الجهات الحكومية، سواءً كانت مدنية أو عسكرية، وكذلك جميع مؤسسات الدولة.

يقول المحلل الاقتصادي، جوزيف ضاهر: “إنها شبكة معقدة تتدفق فيها الخردة عبر قنوات قانونية وغير رسمية. عندما يُغلق أحد الصمامات، تُوجد سبل أخرى للحفاظ على استمرار التدفق”.

مغناطيس لجذب أمراء الحرب 

عرف النظام السوري السابق أهمية تجارة الخردة المعدنية للاستفادة من الحرب السورية ومن مستويات الدمار الكبيرة التي خلفها القصف والمعارك. إذ أينما كان يسير جنود الجيش السابق كانوا يفتحون آفاقاً لتجار الخردة، بسبب تدميرهم كل شي، مع ما تدره من أرباح ضمن السوق المحلية لتمويل القدرات العسكرية والميليشيات. فجذب ذاك النظام، منذ البداية، أمراء الحرب ورجال الأعمال ووضعهم في الواجهة للعمل مع جامعي الخردة الصغار والمقاولين لخلق سلسلة إنتاج تسلمتها وهندستها الفرقة الرابعة، سيئة الصيت التي كان يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد، وكانت أكبر المستفيدين منها.  

خلال الحرب السورية، تحولت أحياء  بكاملها حول العاصمة السورية دمشق، وخاصة في الغوطة إلى كتل من الركام. ما فتح المجال أمام تسابق محموم لجمع الحديد والخردة أطلقت شرارته الفرقة الرابعة عبر وكلاء ومقاولين محليين سمحت لهم بالعمل، وخاصة في مدينة داريا، الضاحية الدمشقية التي شهدت دماراً كبيراً. 

سرقة الخط الحديدي الحجازي! 

في شارع مستقيم يُمثل الحد الإداري بين ضاحيتي المعضمية وداريا، لا تزال الحفر التي سببها قصف الطيران وقذائف الهاون ظاهرة للعيان. مشينا مع أبو راشد الذي عاد من رحلة لجوء في غازي عنتاب التركية بعد سقوط النظام السوري، إلى حيث يقع أحد المقرات العسكرية لجيش النظام السابق الرابعة الملاصق لمطار المزة العسكري خلف الموقع المباشر. وُصفت المنطقة بأنها خط جبهة رئيسي، تحيط بنا الأبنية المدمرة وهياكل بيتونية سويت بالارض، ويميز المنطقة هنا سكة قطار تشكل جزءاً من “الخط الحديدي الحجازي”.

 

سكة قطار الخط الحديدي الحجازي في مدينة داريا، ريف دمشق، أيلول/ سبتمبر 2025، سراج.

 

جرت عمليات نهب الحديد ومحاولات سرقة حديد السكّة، وربما حاولوا نزعه للاتجار به وبيعه، يقول أبو راشد. 

ويضيف: “بعد رحيل السكان وتهجيرهم الى إدلب في آب/أغسطس 2016، تولت الفرقة الرابعة المسؤولية الكاملة عن المنطقة، وسيطرت على جميع الجوانب الأمنية والعسكرية وتم التعاون مع النباشين.. نعم، تعاونت الفرقة الرابعة مع النباشين المحليين، ووفرت لهم أجورًا يومية في المقابل، وفرت لهم الحماية وحصلت على حصة من الأرباح”.

يشير أبو راشد إلى عمليات سرقة ممنهجة لممتلكات المدنيين مع التركيز بشكل كبير على الخردة المعدنية (الحديد). وشمل ذلك قضبان التسليح التي أُزيلت بقطع أسطح المباني. حتى البنية التحتية الحيوية للمدينة استُهدفت، مثل المحولات الكهربائية التي تُغذي المدينة وكابلات الكهرباء الرئيسية.

ليس فقط في داريا تم نزع الحديد وجمعت الخردة، بل في جوبر أيضاً التي تعد مدينة مدمرة بالكامل، وهي فعلاً التشبيه الأوضح لما يمكن أنْ يكون “مدينة أشباح” ولا يمكن اعادة اصلاح أي بيت فيها كما يقول أبو شادي، الرجل الخمسيني من سكان المدنية، والذي عاد من لبنان بعد سقوط النظام السوري منهياً رحلة لجوء استمرت 12 عاماً. 

وجد بيته “على الأرض”، كما يقول، بعد أن سحبت الفرقة الرابعة والعساكر الحديد من سقفه وأبقته ركاماً. 

ويضيف: “كان هناك عساكر ومكنات متخصصة. يأخذون الحديد من الأسقف”. 

الحال نفسه ينطبق على أبو محمد، الستيني من حَي جوبر، الذي أجبره القصف العنيف على الحي على النزوح والسكن في منطقة ضاحية قدسيا قرب دمشق والعودة لبيته في جوبر بعد سقوط النظام فوجد بيته المكون من ثلاث غرف ومعهم متجره الذي ورثه عن أبيه قد أصبحوا أثرا بعد عين. تم تفجيرها وسحب الحديد والمعادن من الشقوق والأعمدة باستخدام ماكينات متخصصة بإشراف جنود الفرقة الرابعة كما يقول. 

صادفناه بجانب رماد وبقايا متجره في جوبر، “كل يوم آتي إلى هُنا .. أتذكر أبي (توفي عام 2013) وأتذكر الجيران. كان هذا الشارع يعجّ بالسكان والسيارات تسير في اتجاهين.. لقد دمّروا كلَ شيء. كل يوم أتذكر تلك الأيام وابكي”. 

بعد أن انتزعت المعادن وبالاخص الحديد من البيوت المدمرة، ونقلت إلى معامل التدوير بإشراف الفرقة الرابعة، كما يقول من التقيناهم من السكان ومن جامعي الخردة في دمشق وريفها وادلب وأرياف حلب ما هي الخطوة التالية؟ وماذا يحل بالإنتاج بعد تدوير الخردة وصَهرها. 

وعلى مدار سنوات الثورة السورية شكلت هذه القوة العسكرية اقتصادها الخاص، المبني على الجريمة المنظمة. وتأتي تجارة الخردة والكبتاغون في رأس هرم أعمالها، وصدرت واجهات مالية لها من رجال أعمال ومقاولين فتح الباب أمامهم لممارسة الأعمال بالاستفادة من حالة الدمار والانهيار وتردي الوضع المعيشي للسوريين. حيث شكلت اقتصاداً منظماً بأسلوب مافيوي يتم فيه حصر العمل في قطاعات محددة المحسوبين على الفرقة وازلامها وتكون قواتها ونقاط التفتيش “الحواجز” العسكرية المنتشرة في مناطق سيطرة النظام السابق بمثابة اجهزة تدقيق وتفتيش على نقل البضائع والأموال، وكان حديد الخردة أحد هذه البضائع التي تدر على الفرقة ملايين الدولارات. 

بأمر الفرقة الرابعة!
في مجمّعه المخصص لاستقبال الخردة من الباعة المتعاملين معه في منطقة الزبلطاني بدمشق، يستقبل أبو محمد يومياً الخردة التي أمكن جمعها من الأحياء المجاورة. وينتشر في بهو المجمع الذي استقبلنا فيه داخل خيمة، أنابيب معدنية وقضبان ومعدات مستهلكة. 

داخل مركز تجميع الخردة المعدنية في دمشق، أيلول/ سبتمبر 2025، سراج.

يقول: “كانت الفرقة الرابعة تتقاضى رواتب شهرية من مراكز تجميع الحديد والخردة في المنطقة، وممنوع العمل دون أن تدفع لهم”.  

كما أنّ البيوت المهدّمة والمناطق المغلقة والمدمرة ممنوع الدخول لها من قبل السكان العاديين. فقط كان العساكر (قوات الفرقة الرابعة) يدخلون لأخذ الحديد وبيعه. 

يشاركُه الرأي أبو اسماعيل، ابن منطقته وهو جامع خردة، عمل لسنوات في دمشق في ظل قوانين و إرشادات الفرقة وضباطها، قبل انهيار النظام السوري، وحل الجيش السابق ومعه الفرقة الرابعة. يقول: “كنا ننقل الخردة من مراكز التجميع في دمشق إلى معامل الصَهر في مدينة عدرا الصناعية (معمل حمشو) والي مدينة حسياء الصناعية، بعد أن نتواصل مع الفرقة الرابعة (مكتب الأمن) نطلب منهم مرافقة الشحنة التي ننقلها، عندها نعطيهم اسم السائق، لون السيارة، ورقم اللوحة حتى تتمكن من عبور حواجز الفرقة على الطرقات، وكان من غير المسموح التنقل دون مرافقة”. 

وبعد يوم أو يومين، نذهب إلى مكتب الفرقة، فنجد أسماءنا مسجّلة (مدونة). مثلاً: “السيارة رقم كذا باسم فلان، وتحمل عشرة أطنان يسمح لها بالذهاب إلي المعمل (عدرا)”. 

لم يتغير سعر كيلو حديد الخردة بعد سقوط النظام في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وبقي 500 ليرة (o,o4 دولار أمريكي)، لكنه قبل ذلك شهد تقلبات باتجاه تصاعدي في مجملها، حيث ارتفع إلى ألف ليرة للكيلو، ثم إلى 1200 ليرة، وذلك من عام 2016 حتى 2024، وفق أبو إسماعيل. وهذا مرده إلى الطلب العالي على الخردة والمعادن لما تدره من أرباح. 

خلال سنوات الثورة، وزيادة التركيز على مفرزات الحديد والخردة من قبل الفرقة الرابعة، احتاج النظام السوري إلى اتخاذ إجراءات سريعة لتنظيم هذه المهنة التي تكبر وتنمو، مع زيادة مستويات الدمار والهدم في سوريا. 

برز اسم الشركة السورية للمعادن ” Syrian Company for Metals and Investments LLC” التي تأسست العام 2018. وسرعان ما فرض الاتحاد الأوروبي ووزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليها لارتباطها برجل أعمال يعد أحد واجهات نظام الاسد السابق الاقتصادي، خضر علي طاهر، الشريك المؤسس في الشركة، بامتلاكه 500 حصة تعادل 50% من رأس المال. 

بعد سقوط النظام السوري لم يعد يعرف مكانه وبقي مجهولاً. 

كانت الشركة السورية للمعادن، الجهة المخوّلة والمسؤولة عن منح تراخيص العمل في جمع الخردة في مناطق سيطرة النظام السوري السابق، للمقاولين والمياومين ومن يودُّ العمل في هذا المجال. وتم حصر السوق بها كجهة تنظيمية، فيما تشرف الفرقة الرابعة وقواتها على عمليات الترفيق على الأرض بأوامر من القصر الجمهوري، على ما تكشف وثائق حصرية اطلعنا عليها. 

بعد سقوط النظام أتيحت لفريق التحقيق فرصة لزيارة مقر الشركة بدمشق. لكن أحد المسؤولين الإداريين ابلغنا أنه تم إتلاف كمية كبيرة من الأوراق والمستندات من قبل الموظفين السابقين قبل فرارهم خارج البلاد، ما ألقى مزيداً من الغموض على حجم عمل وإيرادات هذه الشركة وحجم تجارة الخردة بالعموم لغاية سقوط النظام السوري. 

يقول أبو إسماعيل: عندما تمتلئ سيارتي بالخردة، أطلب المرافقة من الفرقة الرابعة ويكون عندي أذن بالنقل من الشركة، ولا يوجد مكان آخر يستقبل الخردة سوى معامل الصَهر التي تحددها لنا الشركة، بعدها أدفع 1200 ليرة للكيلو في ذلك الوقت لأن سعر الصرف يتغير (بالسعر الحالي العام 2025، دولار أمريكي و20 سنتاً) للفرقة الرابعة، وكانوا يأخذون أيضاً مبلغاً كقيمة للترفيق.

بحسب التاجر، كانت الفرقة الرابعة هيَ من يحدّد وجهات شحن ونقل الحديد للسائقين، وأين يجب أن يتم إرسال الشُحنات، وكانت تصل إلى معملين أساسيين سيطرا على هذه التجارة في مناطق النظام السوري السابق وهما: معمل عدرا لصالح رجل الأعمال محمد حمشو، ومعمل آخر في مدينة حسياء الصناعية. 

 

ويضيف التاجر: “المرافقة كانت شكلية، تتم عبر الهاتف فقط. كانوا يتقاضون المال وهم جالسون في مكاتبهم.. كانوا يفرضون على الناس أن يأتوا إليهم لتقديم طلب والحصول على تصريح يسمح بجمع الخردة، لكن العمل كان بأكمله تحت سيطرتهم، وليس لصالحك”.

أطفال في المنطقة الصناعية بحي القابون (دمشق)، يجمعون الحديد والخردة المعدنية، شباط/فبراير 2025، سراج

كل من يريد العمل في نقل الخردة أو الاتجار بها ونقلها يحتاج إلى ترخيص شهري. وقد شارك معنا أحد التجار ترخيصاً حصل عليه من الشركة السورية للمعادن، يظهر بوضوح اسم الجهة المستقبلة للخردة “معمل حمشو – عدرا”. 

صورة إيصال لنقل شحنة خردة إلى معمل صَهر الحديد (حمشو) في عدرا، حصري، سراج.

اطلعنا على تصريح آخر لمقاول عمل بجمع الخردة سابقاً ولا يزال، ويظهر فيه اسم رئيس لجنة المعادن، أحمد علي طاهر، وهو شقيق علي طاهر والاثنان على قائمة العقوبات الأوروبية.

وقد تعذّر الوصول إلى محمد حمشو وخضر علي طاهر للتعليق.

بعد سقوط النظام السوري بقيَ عمل الشركة السورية للمعادن كما هو عليه، وبقيت لوائح وإرشادات تنظيم مهنة جمع الخردة ونقلها الي معمل الصهر كما هي، وفق ما أخبرنا به العديد من العاملين في هذا المجال حيث لا يزالون يجمعون ويحصلون على أذونات النقل من الشركة نفسها التي آلت ادارتها الى الحكومة السورية الجديدة. 

لم تردّ الشركة على طلبات فريق التحقيق والتعليق بموجبها حول الإجراءات الجديدة التي يعملون عليها. 

وردّت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، علي فريق التحقيق “بأننا معنيين فقط بما يخص عمالة الأطفال أما باقي النقاط .. تنظيم قطاع تجارة الخردة، الملاحقات القضائية بحق متهمين بتهريب الخردة ( فهي تقع في مجال وزارات وجهات مختصة أخرى معنية بهذا الشأن”.

  • أطفال وعمال يجمعون حديد “الخردة” من البيوت المدمّرة في ريف دمشق.

    Credit: Sergio Attanasio

مكب المطلة والتهريب إلى لبنان 

يُوجد في محيط العاصمة دمشق العديد من مراكز تجميع حديد الخردة، منها ثلاثة مراكز كبيرة تمكنّا من إحصائها بعد الحديث مع عشرة مصادر من داخل هذه التجارة، يتوزعون بين تجار كبار وأصحاب مراكز تجميع صغيرة و عمال مياومين ومتعاونين. وهي مكبّ “المطلّة” باتجاه طريق السويداء جنوب دمشق، ومركزي تجميع في مدينتي حسياء وعدرا الصناعيتين. 

وكان للفرقة الرابعة مفارز أمنية عند بوابات هذه المراكز، بحسب وثيقة حصرية اطلع عليها فريق التحقيق. 

لكن ومع حلول العام 2020 حصل تطور غير متوقع في هذه المهنة. 

“بدأت تدخل سوريا شاحنات لبنانية .. تدخل إلى مراكز التجميع هذه وتحمل الخردة وتنقلها إلى لبنان بعد أن تدفع بين 100 – 130 دولار امريكي للطن الواحد، وهناك يتم بيع الطن ب 300 دولار”، يقول أحد تجار الخردة.

الأرباح المضاعفة التي يمكن أن يتم جنيها بهذه الطريقة حفز الأسواق أكثر وجعل تجارة الخردة أكثر ربحيّة مما كانت عليه من قبل.

أشار تجار آخرون إلى أن طريق بيروت – دمشق كانت المسار الأساسي لنقل الخردة من سوريا إلى لبنان عبر شاحنات تمرُ عبر حواجز الأمن السوري والفرقة الرابعة المنتشرة على طول الطريق وخاصة في منطقتي الديماس والصبورة غرب دمشق. 

يقول التاجر أبو إسماعيل: “كانت الشاحنات اللبنانية في الغالب تذهب لتحميل الخردة من مركز تجميع المطلة، ويخرجون الخردة والحديد من سوريا إلى لبنان، إمّا من معبر جديدة يابوس، أو من بوابة حمص– القصير الحدودية. كانوا يأخذونها إلى لبنان، ومن هناك تُشحن عبر البواخر إلى تركيا”. وأضاف أن جزءاً كبيراً من الخردة “كانوا يستخرجون منه قضباناً مبرومة أو صفائح وغير ذلك.. المعمل (المطلّة) كان نشطاً، لم يكنْ مجرّد مركزاً لتجميع الخردة”.

على الاوتستراد الدولي المعروف اختصاراً “M1″، والمؤدي إلى معبر جديدة يابوس- المصنع مع لبنان، تنتشر صور بشار الأسد ووالده، وتعلو جوانب الطريق على المرتفعات الصخرية وكأنها تقول أنا أراكم. 

أُزيل معظم هذه الصور وتم تمزيق صور الديكتاتور الهارب، بعد أن كتب عليها عبارات بيد القوات المنتصرة التي قدمت من الشمال بعد أن وصلوا للمنطقة، عقب سقوط النظام السوري. 

كما كان يوجد على الطريق حواجز لقوات أمن النظام السوري باتجاه الذهاب والإياب، لكن وعلى بعد نحو 30 كم من الحدود اللبنانية، لا تزال تتواجد بقايا أحد أكبر حواجز الفرقة الرابعة باتجاه بلدة الصبورة – ويعفور (حاجز يعفور) وهو حاجز تفتيش من جهة واحدة للعربات والشاحنات المتجهة الى لبنان. 

يرتبط ذكر هذا الحاجز بذكريات سيئة عند السوريين، لحجم الانتهاكات التي كان يمارسها عناصر الحاجز بحق من يعبر من خلاله، من اعتقالات وتفتيش وطلب الرشاوي، حيث تتألف نقطة التفتيش من غُرف إسمنتية مسبقة الصنع، عددها أربعة وضعت بجانب بعضها البعض، على طرف الطريق من الجهة اليسرى تحت جسر أسمنتي يؤدي إلى قرية الصبورة المجاورة. 

حاجز جسر يعفور Geolocation: Jonathan Cole

على أحد جدران الغرف الإسمنتية، رُسم بشار الأسد داخل أضلاع درع مزيّن بحواف ذهبية اللون وحوله العلم السوري السابق. وتنتشر على طرفي الطريق الفلل الفاخرة والمنتجعات التي كان يقطنها ضباط الفرقة الرابعة والقيادات الأمنية والعسكرية العليا في جيش النظام السوري السابق. 

خلال شهري أيار/مايو، وأيلول/سبتمبر الماضيين، عاين فريق التحقيق هذا الحاجز الذي تم تكسير وحرق محتوياته بالكامل. 

حاجز جسر يعفور بعد حرقه وفرار عناصر الفرقة الرابعة، ريف دمشق، أيلول/ سبتمبر 2025، سراج.

داخل الغُرف الخرسانية تتبعثر بقايا الأضابير والصور والوثائق ومخلفات الجنود. هناك بعض الوثائق نجت من عمليات حرق تمّت على عجل على ما يبدو من أجل إخفاء أية أدلة عن الأنشطة التي تتم عبر نقطة التفتيش هذه. 

قُصاصات الأوراق القليلة التي تمكنا من تصويرها، والتي نجت من الحريق، تكفي لرسم صورة واضحة عن تجارة الخردة غير الرسمية، التي لا تظهر في الإحصاءات الرسمية: فهي تُقدم رؤىً حول كيفية نقل آلة الأسد الاقتصادية الخردة المعدنية وغيرها من السلع المهربة عبر البلاد. كما تُقدم صور القصاصات لمحةً نادرةً عن مئات الآلاف من الدولارات من الإيرادات التي حققها الحاجز. ويعود تاريخ بعض أحدث السجلات إلى أيلول/سبتمبر 2024.

أيضاً، تظهر الوثائق ما كان يتم عبر هذا الحاجز من مصادرة ممتلكات أو مراسلات أمنية بين قادة الحاجز والسلطات المركزية في الفرقة الرابعة، وأمانة القصر الرئاسي.

صورة مذكرة تبليغ بمصادرة بضائع من قِبل عناصر الحاجز للواء غسان بلال، حصري، سراج.

على سبيل المثال، تظهر إحدى الوثائق، ما يبدو أنّه نمط متكرر في الحصول على الأموال من سائقي الشاحنات مقابل السماح لهم بالمرور عبر نقطة التفتيش هذه.

صورة وثيقة قرار بالسماح بمرور شاحنات الخردة والبضائع عند حاجز للفرقة الرابعة، سراج، حصري.

يظهر جدول تفصيلي في وثيقة أخرى، وهو بمثابة “دراسة مبدئية” بالدخل المتوقع من تجارة الخردة شهرياً، أنه سيتم تقاضي مبلغ 1,250 مليون ليرة سورية ( حوالي 100 دولار أمريكي بالسعر الحالي) على شكل رشى عن كل شاحنة تمر عبر حاجز التفتيش، فيما سيبلغ عدد الشاحنات التي تمر شهرياً بحسب الوثيقة 100 شاحنة محملة بالخردة ومتجهة إلى لبنان، ما يعني دخل إجمالي من شاحنات الخردة فقط 125 مليون ليرة سورية، ودخل إجمالي لنقطة التفتيش هذه من إتاوات مرور شاحنات البضائع في شهر واحد نحو 725 مليون ليرة سورية (9,615 دولار أمريكي بالسعر الحالي). 

صورة دراسة عن مدخول الحاجز بالليرات السورية شهرياً من الشاحنات والصهاريج، حصري، سراج.

يقول تاجر سكراب من دمشق، في منطقة ابن عساكر: “عندما بدأت تجارة الخردة، كان عناصر الفرقة الرابعة هم من يدير التجارة، ثم لاحقاً تاسست الشركة السورية للمعادن الملونة. كان عناصر الرابعة يرتدون لباساً مدنياً وهم من يحدد سعر الطن والكيلو للمبيع.. كان الحصول على إذن ترفيق للحمولة من قبلهم أمر إجباري، وعدم القيام بذلك يعني مصادرة الحمولة والسجن او الاحالة الي فرع المخابرات 248 (أمن الدولة).. كنا نقبض ثمن بيع الخردة من الشركة في منطقة المزة بدمشق، نقداً باليد”.

في العام 2022، كان يبلغ سعر ترفيق طن الحديد المبروم 1300 ليرة سورية ( 13 سنتاً/ دولار امريكي تقريباً) والنحاس 5 آلاف ليرة (نصف دولار)، بشرط إحضار مهمة عمل أيضاً وتدفع للفرقة الرابعة التي بدورها كانت تبيع الخردة التي يتم تجميعها في مركز “المطلّة” إلى تجار من لبنان ويتم شحنها لتباع هناك.

كانت الشاحنات والسيارات التي تنقل البضائع على اختلاف أنواعها يجب أن تخضع لاحكام بروتوكولية وإجراءات تنفيذية تضعها قيادة الفرقة الرابعة، بحسب الوثائق التي اطلعنا عليها. 

القصر الرئاسي يتاجر بالخردة 

تشير إحدى الوثائق المؤرخة بتاريخ 25 آذار/مارس 2024، والتي نجت من حريق “حاجز يعفور” بإعجوبة، وتمكنا من الاطلاع عليها وفحصها إلى “الإجراءات العامة التنفيذية” الواردة من “الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية”، والموجهة إلى الفرقة الرابعة، للسماح للشاحنات العبور والمرور عبر الطرقات العامة، ومن أجل تجاوز نقاط التفتيش التابعة للفرقة وهي محملة بالبضائع، والتي يجب على السائقين اتباعها عند المرور عبر نقاط التفتيش لتفادي العقوبات. 

وكان لافتاً ورود بند واضح، يشير إلى قواعد نقل الخردة بالشاحنات والتي تمر عبر هذا الحاجز. وقد وافقت عليها أمانة الرئاسة، وهي:

  • الموافقة علي الترفيق للخردة من المعابر وحتى المعامل او مراكز النقل (حسياء وغيرها) واجراء التفتيش في هذه المراكز. 
  • الموافقة علي الترفيق للسيارات المتجهة من المراكز (مركز حسياء وغيرها) إلى لبنان. 
  • الموافقة على وضع مفرزة أمنية للفرقة الرابعة في مراكز تسليم الخردة مثل: حسياء والمطلة وعدرا. 
  • الطلب من المعنيين في الفرقة الرابعة بيان مقترح لآلية الترفيق الداخلي الجديدة بموجب هذه اللائحة.

تم نشر “مفارز أمنية للفرقة الرابعة” (البند الثالث) في مراكز جمع وتخزين وتوزيع الخردة المعدنية، مثل حسياء وعدرا، وهما موقعان أشارت إليهما عدة مصادر ممن أجريت معهم مقابلات خلال التحقيق، إلى أنهما أساسيان لتجارة الخردة المعدنية التي تسيطر عليها الفرقة الرابعة. حيث أُرسل جزء منها إلى مصانع رجال أعمال مرتبطين بالنظام، وفُصل جزء آخر للتصدير الى لبنان. 

وتم تذييل الوثيقة بملاحظة أنْ تأخذ الفرقة وعناصرها حسبانها أن الموافقات التي تصدر عن “الأمانة العامة” سوف تتم عبر الفاكس. 

يشير مصطلح “الأمانة العامة” في الوثيقة إلى “أمانة رئاسة الجمهورية، بقيادة الوزير، منصور عزام مستشار الأسد المباشر والمشرف على أعمال الفرقة الرابعة. بحسب أيمن الدسوقي، الباحث في مركز عمران للدراسات من دمشق.  يضيف الدسوقي: “المقصود هنا هو الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، أي منصور عزام”. 

وكان منصور فضل الله عزام، يشغل منصب وزير لشؤون رئاسة الجمهورية، وهو من مواليد السويداء 1960. 

ومع سقوط النظام فرّ عزام وأصبح مكانهُ مجهولاً. 

تُشير وثيقة أُخرى إلى موافقة جاءت من القصر (الأمانة العامة) إلى الفرقة الرابعة يوم الإثنين بتاريخ 23 آذار/ مارس 2024، تسمح بموجبه بانتقال الشاحنات المحمّلة بالخُردة بموجب مقترح مقدّم من الفرقة.

صورة وثيقة “بالإجراءات العامة التنفيذية” من أمانة القصر الرئاسي للفرقة الرابعة لاتباعها. سراج، حصري.

لجنة الأربعة

الإتجار بالخردة من قبل الفرقة الرابعة ورجال الأعمال الواجهات والأرباح التي تدرُها ونسب كل طرف وعلاقتهم بالقصر الجمهوري حيث يجلس هناك رجال يراقبون ويديرون المشهد عن بعد، لم تكن على أحسن حالها منذ العام 2022 لغاية سقوط النظام السوري. 

“إذ ظهرت إشكالية تتعلق بالآلية التي تم العمل من خلالها، وكان هناك فريق داخلي (للإشراف علي تجارة الخردة) تبيّن أن بعض أفراده متورطون في قضايا فساد” يقول الدسوقي.

ويضيف “كانت هناك لجنة مكوّنة من أربعة رجال أعمال مدعومين من الفرقة الرابعة. وعندما رفع أبو علي خضر تقارير تُفيد بأن هؤلاء يسرقون الأموال ولا يسلمون المبالغ الكاملة المعلَن عنها، تمّت إزاحة اللجنة واستبدالها بأخرى جديدة يرأسها خضر نفسه”. وكان النظام السوري يحتاج لاعادة تنظيم عمل هذه الواجهات وتقييم أدائها كل فترة، وذلك لضمان انسيابية العمل واستمرارية تدفق الخردة، حيث تُظهر أحد الوثائق أهمية تجارة الخردة المعدنية بالنسبة لنظام الأسد. 

مجمع خردة ونفايات معدنية (سكراب) بدمشق، شباط/ فبراير 2025. سراج: أحمد حاج بكري.

لكن حتى هذه اللجنة تورطت لاحقًا في استغلال نفوذها أكثر مما ينبغي، بدلاً من رفع العائدات إلى القصر، ما أدى إلى إعادة النظر في عملها.

بحسب الباحث الدسوقي: “إذا كان ذِكر الأمانة العامة موجودًا في هذه الوثيقة تحديدًا وليس في غيرها، فهذا دليل على أن بشار الأسد لم يعد يثق إلا بمنصور عزام بشكل مباشر، وأنه هو من أصبح المشرف على أعمال الفرقة الرابعة، فيما يتعلق بمنح الموافقات وغيرها من الملفات، وهذا ينسجم مع سياسة النظام في فترته الأخيرة، حيث بدأ بمركزة الأمور كافة في القصر الجمهوري وإبعاد الوسطاء. فإذا عدنا بالذاكرة، نجد أن بشار الأسد بدأ بإحداث شركات واجهة تابعة له بشكل مباشر، دون الاعتماد على وسطاء، لاعتقاده أن هؤلاء كانوا يسرقون الأموال أو يفتقرون إلى الأمانة”.

بتاريخ 19 آذار/ مارس 2024، عقد اجتماع عالي المستوى بين الفرقة الرابعة وما بات يعرف بـ”لجنة القصر”، اطلع فريق التحقيق على محضر الاجتماع من خلال وثيقة حصريّة، تثبت أن هناك مناقشات بين الطرفين قائمة لتيسير عمل نقل الخردة والاتجار بها في الداخل والخارج سوريا وبالتحديد الى لبنان.

الوثيقة التي تم كتابة إضافات وتفسيرات عليها بخط اليد، ووضع سطور أسفل المقترحات التي تم تداولها والتركيز على عمليات الترفيق، تشير إلى أن الفرقة الرابعة قد اقترحت على لجنة القصر الجمهوري إنشاء مراكز تبادلية (تسليم واستلام الخردة) وهو ما رفضته اللجنة، واقترحت بديلاً أن يتم تفتيش الشاحنات في مراكز التجميع التابعة للشركة السورية للمعادن: وعليه: 

اقترحت الفرقة الرابعة في تفسيرها للجنة القصر الجمهوري، الإصرار على “الترفيق الكامل” للخردة من المعابر إلى المعامل مباشرة، أو إلى مراكز اللجنة (الفرقة الرابعة) في مدينة حسياء الصناعية وتفتيشها في المراكز، بدلاً عن المعابر، بسبب صعوبات تنفيذ ذلك. 

وأصرّت الفرقة الرابعة على لجنة القصر الموافقة على “الترفيق الكامل لسيارات الخردة المتجهة الى لبنان، وذلك من مركز اللجنة (الفرقة الرابعة) في حسياء وغيرها، ووضع مفارز للفرقة في مراكز التصدير المعتمدة للخردة”.

صورة وثيقة ملخص محضر اجتماع بين لجنة القصر والفرقة الرابعة حول نقل الخردة، سراج، حصري.

تجارة النحاس الأحمر

عن السبب الذي يدفع النظام السوري السابق إلى نقل الخردة من سوريا إلى الخارج والإتجار بها، تذهب مصادر حصرية من داخل هذه التجارة، كما خبراء متابعين لها، إلى أن دافع ذلك هو، أولًا،  أن المستودعات داخل سوريا امتلأت، وهناك اكتفاء في السوق المحلية، إذ لا توجد حالة طلب مرتفعة على الخردة داخليًا.

ثانيًا، هناك اليوم طلب عالمي متزايد، ولا سيّما على خردة النحاس، وإعادة تصديرها تتيح تحقيق أرباح كبيرة نتيجة الفارق بين سعر التحصيل المحلي وسعر التصدير الخارجي، مما يعني عوائد مرتفعة.

وبناءً عليه، كانت تجارة الخردة تُدار في اتجاهين:

اتجاه داخلي لتلبية احتياجات السوق المحلية، تحضيرًا لمرحلة إعادة الإعمار التي توقّع النظام أن تتزامن مع رفع العقوبات، وبالتالي تأمين كميات كافية لتغطية السوق. واتجاه خارجي يهدف إلى توسيع الشبكات والاستفادة من الطلب العالمي المتنامي على هذه المواد.

بتاريخ 15 نيسان/ أبريل 2024، بعث المقدّم الركن جعفر كاسر البودي، وهو قائد مركز السالمية في الفرقة الرابعة دبابات، برقية مستعجلة “مذكرة إعلام” إلى قيادته، يبلغها فيها أنه تم بيع 235 كيلو غرام من مادة النحاس الأصفر إلى تاجر محلي متعاقد مع الشركة السورية، وأن الفرقة الرابعة، عبر مكتب الأمن، قد وافقت على الصفقة، بسعر 65 ألف ليرة سورية (نحو 6 دولارات  أمريكية) للكيلو الواحد، ولتبلغ قيمة الصفقة 15,275 مليون ليرة سورية. 

في الوقت الذي تعذّر علينا فيه معرفة ما حلّ بالصفقة، وإن كانت الشحنة توجهت إلى لبنان أو تم تحويلها إلى معامل الصَهر، يظهر هذا حجم توغل الفرقة الرابعة وسيطرتها على هذه التجارة.

صورة وثيقة مذكرة تبليغ عن بيع شحنة نحاس من مصادرات الفرقة الرابعة لتاجر محلي، سراج، حصري.

يقول الدسوقي، الباحث في مركز عمران: “تتقاطع هذه المعطيات عن دور الفرقة الرابعة مع ما عملتُ عليه سابقًا حول اقتصاد الفرقة.. نحن نتحدث هنا عن تجارة الخردة التي كانت في الأساس محتكرة من قبل الفرقة الرابعة ورجال الأعمال المرتبطين بها. وكان جزءٌ أساسي من الخردة، ولا سيما مادة النحاس، يُجمع ثم يُنقل إلى الخارج، وتحديدًا إلى لبنان، حيث يُعاد شحنه وتصديره إلى ثلاث وجهات رئيسية: تركيا، والإمارات العربية المتحدة، والهند”.

ليس فقط عبر هذه الطريق المؤدية الى لبنان باتجاه بيروت تسيطر الفرقة الرابعة وتفرض قوانينها، بل في كل المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري السابق وخاصة على الطرقات الدولية والسريعة. وهذا ما طالعناه في وثيقة أخرى حصرية كانت عبارة عن إخطار، وصل لحاجز “جسر يعفور” للتو عبر الفاكس من قِبل العقيد لؤي أحمد حبيب، قائد معبر في منطقة منبج الذي يفصل بين قوات النظام وقوات سورية الديمقراطية (قسد). وقد تضمن الفاكس بضعة أسطر بالحبر الأسود ومُوقّع مرتين، يُخبر فيه اللواء غسان بلال (رجل الظل لماهر الأسد، والذي كان يشغل منصب مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة) بأن المعبر بتاريخ 10 نيسان/أبريل 2024 لم يشهد مرور أية قافلةٍ تجاريةٍ، وعليه يرجى أخذ العلم بذلك. 

تظهر الوثيقة نمطاً متكرراً حول ضرورة أن يعرف اللواء غسان بلال بكل تحرك تجاري عبر نقاط التفتيش التابعة للفرقة الرابعة. ويظهر هنا حجم هذا الرجل وقوته في الفرقة، ويحل في الدرجة الثانية بعد ماهر الأسد.

صورة وثيقة مذكرة تبليغ للواء غسان بلال عن نشاط حاجز معبر منبج، سراج، حصري.

بلال مدرج أيضًا على قوائم عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لانتمائه لنظام الأسد. أمّا بالنسبة للمرسل، العقيد لؤي أحمد حبيب، فلا أحد يعرف مكانه.

تؤكد الوثائق التي صوّرناها أنّ شاحنات الخردة، نظرًا لقيمتها العالية، كانت تُرافقها وحدات من الفرقة الرابعة من المراكز الصناعية في حسياء والمطلة وعدرا عبر الحدود إلى لبنان.

حاجز جسر يعفور باتجاه الحدود اللبنانية، أيلول/ سبتمبر 2025، سراج، حصري.

في بلدة معرة حرمة، جنوب مدينة  إدلب، تظهر لقطات جوية حصلنا عليها في كانون الثاني/ يناير 2025 بيوتاً وعمارات ومدارس ومسجد بلا أسقف، بعد أن تم  إزالتها بفعل عمليات نزع الحديد منها، عقب سيطرة قوات النظام السوري على المنطقة العام 2019.

بحسب سكان محليين “كانت الفرقة 25 في جيش النظام السابق بقيادة الضابط سهيل الحسن من قوات النظام هي من يسيطر على البلدة”، بدلالة الكتابات التي رصدناها في ما تبقى من منزل أحد الصحفيين المحليين بعد ان عاد  إليه بعد سقوط النظام السوري”.

@musabyaseen8

الصحفي @إياد أبوالجود في منزله

♬ الصوت الأصلي – مصعب الياسين

لبنان ممر الخردة السورية .. 

جعلت العقوبات الدولية استخدام الموانئ السورية (اللاذقية وطرطوس) للتصدير أمراً صعباً، حيث لم يُسمح إلا لعدد قليل من السفن بالرسو في تلك الموانئ. وبالتالي أصبح لبنان النافذة المثالية للنظام السوري السابق لتنفيذ التجارة مع العالم. كما وفرَ بابًا خلفيًا لحفظ ماء الوجه أثناء التعامل مع عدو في حالة حرب.

راجع فريق التحقيق قاعدة بيانات الأمم المتحدة لتجارة السلع الأساسية (COMTRADE)، وتبين أن واردات لبنان من الخردة السورية رسمياً كانت صفرية، أمّا سوريا، فلم تُبلغ أيضاً عن أية صادرات من الفولاذ أو الخردة. 

الأرقام التي حصلنا عليها لا تتطابق مع ما تُعلنه السلطات اللبنانية عن حجم هذه التجارة ووارداتها من سوريا، ومن المرجّح أنّ هذه التدفقات من حديد الخردة السورية الى لبنان لا تظهر في الوثائق الرسمية المحلية والدولية”.

صور وثائق تعرضت للحريق والتلف داخل غرفة في حاجز يعفور، حصري، سراج. تصوير: دحام الأسعد.

لكن الطريق الرئيسية “بيروت – دمشق” تقول ما تخفيه الدفاتر وتكشف عن تجارة خردة في لبنان خارج السجلات الرسمية يُنكر الكثيرون وجودها أصلاً، بحجة عدم وجود بيانات.

ينفي معظم العاملين والشركات اللبنانية في القطاع الذين تحدثنا إليهم، التعامل المباشر مع لبنان باعتباره ممراً للخردة السورية، لكن يبدو أنه ليس سراً أنّ لبنان ممرٌّ لهذه التجارة. 

كما أنّ مصدراً من مدينة بعلبك، وهي مركز معروف للتهريب بين سوريا ولبنان، لديه معرفة شخصية بهذه الشبكات الخلفية، أفاد بأنه عُرض عليه معدن سوري لمشروع بناء من قِبل مقاول مرةً واحدة.

خردة المعادن تُعد أحد المصادر الرئيسية للعملة الأجنبية في لبنان، وتُمثل رابع أكبر صادراته، حيث يُشحن ما بين 300 ألف و400 ألف طن إلى الخارج سنويًا. مع ذلك، لا تنتج البلاد الكثير من الخردة. فقد قدرت دراسة أجرتها الوكالة الألمانية للتعاون الدولي إنتاج حوالي 120 ألف طن من الخردة في عام 2013، بينما صدر لبنان في ذلك العام 404 آلاف طن.

وأوضح أنطوان سرور، صاحب ساحة خردة في منطقة الدكوانة، إحدى ضواحي بيروت الشرقية، قائلاً: “كانت جميع المعادن من الجنوب تذهب إلى تجار من الجنوب. وكانت جميع المعادن من الضاحية تذهب إلى تجار هناك، وخاصةً إلى شاتيلا”، فيما “كان الشماليون يعملون على المعادن السورية ويستفيدون منها”. 

مصدر لبناني آخر، يمتلك ساحة صغيرة للخردة، أشار إلى أنّ هذه التجارة تُدار من قِبل “أصحاب النفوذ” في هذا المجال، أي كبار تجار خردة المعادن ذوي المصالح الدولية.

وفي بعلبك- الهرمل وسهل البقاع، تهرِّب شبكات قبلية أي شيء ذي قيمة – أسلحة ومخدرات وسلع مسروقة – بالتحالف مع حزب الله، الجماعة السياسية والعسكرية الشيعية المدعومة من إيران في لبنان. 

مهند الحاج علي، مدير الأبحاث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، والذي عمل عن شبكات التهريب في المنطقة،  أشار إلى أن “لبعض العشائر المتورطة في التهريب صلات مع وسطاء سوريين، والذين بدورهم مرتبطون بضباط في الجيش السوري. [إنهم يتاجرون] بكل ما هو متاح لديهم، اعتمادًا على الطلب على كل جانب [من الحدود]”. 

وفي ضواحي أخرى من شمال البلاد المهمش، تصف التقارير الإعلامية سكان وادي خالد في عكار، بالقرب من المعابر الحدودية غير الشرعية مع سوريا، وهم يشتكون من نقل الشاحنات التي تدخل سوريا محملة بالإسمنت والوقود وغيرها من البضائع اللبنانية، وتعود محملة بالخضراوات والخردة المعدنية. وسيكون الكشف صعبًا: إذ غالباً ما تختلط البضائع المهربة بالبضائع اللبنانية، وفقًا للمصدر الذي استندت إليه أحد هذه التقارير. 

وكانت وحدة “سراج” قد نشرت تحقيقاً عن عمليات التهريب عبر الحدود وكيف تستفيد الفرقة الرابعة من الشاحنات التي تعبر الحدود من الجهتين: 

رحلة مع المهربين من لبنان إلى سوريا… أي الطرق يسلكون ولمن يعملون؟

تُظهر إحصاءات قاعدة بيانات الأمم المتحدة للتجارة عبر موقعها الالكتروني (Comtrade)، أنّ أكثر من مليوني طن من خردة الحديد قد غادرت الموانئ اللبنانية متجهةً إلى تركيا منذ عام 2013. 

ويتكون جزء من هذه الكمية من إعادة التصدير من المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد سابقاً، أما الجزء الآخر فيأتي من الإنتاج المحلي. وهنا أيضاً، غالباً ما يكون جامعو النفايات من القاصرين، وكثيرٌ منهم سوريون. 

نحن تجار صغار! 

من مكان التجميع المتوسط الحجم، وتحت سقف خيمة عند مدخل قرية كللي في شمال إدلب، يُحاول  أبو مؤيد رفع صوته قدر الإمكان للإجابة عن سؤالنا حول عمله في مجال جمع الخردة واعادة تدويرها، في وقت يحاول العمال بجانبنا ضغط خزانات مياه كبيرة الحجم في مكبس هيدروليكي تحت اشعة شمس يوم صيفي حار، وتحويلها إلى مكعبات متوسطة الحجم يسهل التعامل معها ثم نقلها إلى مراكز إعادة التدوير أو التصدير. 

مضى على عمل أبو مؤيد في هذه المهنة نحو سبع سنوات كما يقول. خلال هذه الفترة، عمّق معرفته وخبراته في “بزنس الخردة”. لكن اليوم لا يمكنه التصدير مباشرة لتركيا أو التعامل مع تجار على الجانب الآخر من الحدود، بسبب وجود تجار كبار في المنطقة يتولون هم مهمة التصدير، كما يذكر. 

ويضيف: “بعد التحرير (سقوط النظام)، أوقفنا التصدير للخارج وأوقفنا العمل بمخلفات الحرب (شراء مخلفات الحرب من القنابل والأسلحة غير المنفجرة). الآن ممنوع. والشركات الكبرى هنا هي من تصدّر لتركيا. لدينا شركات حديد تشتري الحديد مني وتصدر لتركيا، او تبيعه داخل المناطق المحررة (مناطق سيطرة المعارضة سابقاً). أنا كصاحب مركز لا استطيع البيع مباشرة لتركيا. التجار الكبار من هم يصدرون ذلك لتركيا. نحن تجار صغار”.

يشرح لنا أبو مؤيد، وهو يحاول الرد على أسئلة سماسرة وعمال أحاطوا بنا و شكلوا دائرة، من أين يأتي إليه الحديد في إدلب، بالقول: “حديد الخردة هنا يأتي لنا من البيوت ونشتري من الأهالي الذين يرغبون بالبيع”. مشيراً إلى “أن الأسعار بحوالي 3.5 ليرة تركي للكيلو، واحيانا نشتري بخمس ليرات تركية للكيلو”.

وأوضح نائب محافظ إدلب، قتيبة خلف، أن قوات النظام السوري السابق، وعلى امتداد خط الجبهة الجنوبية، كانت قد دمرت البنية التحتية بالقصف، ودمرت محطات المياه ومحطات توليد الطاقة وملأت المنطقة والمساحات الزراعية بالألغام  ومخلفات ومقذوفات الحرب، ما شكل خطورة كبيرة على السكان.

كما إن انتشار المعادن والخردة بهذا الشكل، حفّز السكان المحليين على جمعها والإتجار بها من دون الانتباه إلى خطورة ذلك، وهو ما تتصدى له منظمات محليّة تنفذ حملات توعية لمنع جمع الخردة من هذه المناطق خشية انفجار القنابل غير المنفجرة مثل القنابل العنقودية. 

يضيف خلف: “تجارة الخردة المعدنية تجارة شعبية محلية يمارسها السكان المحليون، وهي مهنة للفقراء. ويمكن إعادة تدوير هذه الخردة المعدنية وبعض المواد الأخرى. لا أعتقد أن المواد المعاد تدويرها صُدّرت، بل أُعيد استخدامها”، مشيراً إلى تورط عناصر الجيش السوري السابق في تفكيك محطات المياه وبيعها كخردة معدنية، كما حصل في محطة اللجّ لضخ المياه؛ إذ تم تفكيكها وسرقة معداتها بعد أنْ كانت تضخ المياه لنحو 43 قرية في المنطقة. 

وعن تصدير الخردة إلى تركيا، يقول: “إذا كانت مادة (من مواد الخردة) لا يستطيع التاجر إعادة تدويرها فهو يبيعها/يرسلها إلى تركيا. بعض أنواع الحديد والزجاج لا يستطيعون إعادة تدويرها محلياً، فيتم إرسالها وتصديرها إلى تركيا لإعادة التدوير. ولكن هذا ليس عمل الحكومة، هذا قطاع خاص – إنها تجارة الفقراء”. 

بالمقابل، وعلى الجانب الآخر من الحدود، يقول إيفي أريول، وهو مهندس معادن يتمتع بخبرة سنوات في فحص خردة المعادن لصالح شركات الصلب التركية: “لضمان عدم اضطرار المصانع إلى إغلاق أفرانها، يجب توفير إمدادات ثابتة من المواد، مهما كانت التكلفة”.

الخردة إلى تركيا بالأرقام 

بين عامَي 2021 و 2024، استوردت تركيا أكثر من 200 ألف طن من الخردة من مناطق سورية كانت خاضعة لسيطرة المعارضة عبر المعابر البرية، وخاصة معبر باب الهوى في إدلب. 

فيما يُباع الفولاذ التركي الجاهز في جميع أنحاء العالم، ولكن الوجهات الرئيسية تشمل إسبانيا واليونان وإيطاليا ورومانيا، بالإضافة إلى اليمن ومصر والمغرب والعراق. 

وتصل خردة الحديد إلى تركيا بشكل رئيسي من دول الاتحاد الأوروبي (55%)، والولايات المتحدة الأمريكية (20%)، والمملكة المتحدة (10%). إلا أن دولًا أخرى زادت من دورها، مثل فنزويلا وإسرائيل وليبيا. 

وترسو أسبوعياً سفن جديدة محملة بالخردة في الموانئ التركية، خاصةً تلك الموجودة في الإسكندرونة (في محافظة هاتاي الجنوبية)، وخليج إزميت (جنوب شرق إسطنبول)، وعلي آغا (في بحر إيجة)، وبارتين (في البحر الأسود)، حيث تتركز صناعة الصلب. 

تحمل الآلات الخردة إلى الفرن، وهناك يتم صهرها. يَخرج الفولاذ المُنصهر على شكل قضبان، ثم تُرسل إلى خطوط التشطيب النهائية.

وفيما تأتي غالبية خردة الفولاذ المُذابة في الأفران التركية من ساحات الخردة في الاتحاد الأوروبي، إلا أنه في وقت سابق من هذا العام، طرحت المفوضية الأوروبية قضية إغلاق الصنابير (الإمدادات) لحماية صناعتها. وحتى مجرد شائعات مثل هذا الحظر ألقت بالسوق في حالة من الفوضى. 

كتب إلينا ساميت كوكا، أخصائي الاستيراد والتصدير في قسم التجارة الخارجية بشركة إرميتال ديمير، وهي شركة لتجارة الخردة في تركيا: “لقد أثرت قرارات الاتحاد الأوروبي وضغوط كبار منتجي الصلب على الموردين. وتستغرق موافقات الشحن، على وجه الخصوص، وقتًا أطول، وبدأت تظهر إجراءات بيروقراطية إضافية في مجال الخدمات اللوجستية. لذا، لم يعد تدفق الخردة من الاتحاد الأوروبي سلساً كما كان في السابق، بل أصبح أكثر حذراً”.

وأضاف: “القيود المفروضة على صادرات الخردة من مختلف الدول تزيد من تكاليفنا من خلال تقييد العرض. ومع ذلك، فإننا نحاول تقليل الأثر السلبي لهذا الوضع من خلال التركيز على تطوير مصادر توريد بديلة والاستفادة من فرص السوق المحلية بشكل أكثر فعالية”.

لم ترد وزارة الجمارك والتجارة التركية، على أسئلة فريق التحقيق للاستفسار عن الضوابط المعمول بها للكشف عن خردة المعادن المرتبطة بالصراعات.

استنادًا إلى البيانات التي قدمتها موقع تتبع السفن مارين ترافيك – Marinetraffic، قمنا بتحليل الآلاف من بيانات دخول ناقلات البضائع السائبة التي ترسو في موانئ تركيا المتفرقة. ونظراً لعدم منحنا أي من حكومات الدول المشاركة في هذه التجارة حق الوصول المفصل إلى بيانات الجمارك والتجارة، فقد تحققنا من حمولاتها من خلال صور الأقمار الصناعية التي تقدمها شركتا “ماكسار” و”بلانيت”. 

تمكنّا من التحقق من خطوط سير ووجهات أربعين سفينة على الأقل في عام 2023 وحده. 

سفنٌ محملةٌ بالخردة تبحر من لبنان، وأيضًا كمياتٌ كبيرةٌ من الخردة تغادر موانئ ليبيا، والأراضي الأوكرانية التي تحتلها روسيا، وإسرائيل. 

في جميع البلدان التي حققنا فيها، أبرمت شركاتٌ تركية صفقاتٍ مع طرفي الصراع.

وبحسب بيانات الأمم المتحدة، فإنه منذ عام 2013، استوردت تركيا أكثر من 2.1 مليون طن من الخردة من لبنان. كان لبنان مصدرًا ثابتًا، لذا رُبما يكون مصدر خردة الحديد السوري، مع أنه كان موردًا بالفعل قبل الحرب السورية – بينما لا تمثل سوريا سوى 0.5% من واردات تركيا. 

وقد تم تهريب جزء منها من المناطق السورية الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، ثم أُعيد تصديرها إلى تركيا.

 

تمكن فريق التحقيق، وعبر موقع تتبع السفن مارين ترافيك – Marinetraffic، من إحصاء عمليات دخول أكثر من 200 رحلة من الموانئ اللبنانية إلى الموانئ التركية المرتبطة بالصلب في الفترة من منتصف شباط/ فبراير 2022 إلى نهاية 2023، منها 167 رحلة إلى ميناء اسكندرون وحده.

كما شاركت السفن السورية الثلاث: فينيقيا وسوريا ولاوديسيا، والتي ربطتها تحقيقات استقصائية بسرقة الحبوب الأوكرانية في 2022، وكان تحقيق استقصائي نشرته وحدة سراج بالتعاون مع مشروع OCCRP، ربطت ملكية هذه السفن بشركة “الهدى القابضة المحدودة” المسجلة في جزر سيشل، وقد اشتراها رجل أعمال كان بمثابة واجهة لنظام الأسد بدولار واحد فقط لكل سفينة (سفينتان).

شاركت سفينة فينيقيا في نقل الخردة من الشواطئ الأوكرانية التي تحتلها روسيا إلى تركيا أيضاً. وتعد هذه السفينة من الأسطول الخفي لسوريا، وجزءاً من أسطول الظل الروسي.

 

سفينة فينيقيا تنقل خردة من ميناء سيفاستوبول (الذي تحتله روسيا) إلى هيركي (تركيا)، 9 يوليو/تموز 2021. المصدر: Yoruk Isik

مخلفات الحرب كخردة قاتلة 

جنوب محافظة إدلب، وعلى طول ما كان يمثل خط الجبهة بين قوات النظام السوري السابق والمعارضة، والممتد من ريف حلب إلى حدود محافظة اللاذقية الإدارية، يمكن المشاهدة بالعين حجم الدمار في الأفق الواسع الممتد عبر البيوت والريفية وكذلك عبر المساحات الزراعية والأراضي الشاسعة ذات التربة الحمراء. 

“نحو 35-40% من محافظة إدلب مدمّر. على سبيل المثال، محطة مياه اللج التي كانت تزوّد جبل الزاوية بالكامل (43 قرية) بالماء، تمت سرقتها كخردة عندما سيطر النظام على المنطقة، وتعاني المنطقة الآن من أزمة في التزود بالماء”، يقول معاون محافظة إدلب، قتيبة الخلف.

بعد سقوط النظام السوري تأمل السلطات المحلية، ممثلة في المحافظة والحكومة المركزية بدمشق، في أن تتم إعادة تأهيل ما يمكن تأهيله ليتمكن السكان من العودة أراضيهم ومزارعهم. لكن هناك عقبات جمّة تقف في وجه هذا المسعى، أهمها انتشار مخلفات الحرب والأسلحة والذخائر غير المنفجرة التي يَروح ضحيتها بشكل أسبوعي الأطفال والمدنيون الذين يقصدون أراضيهم لزراعتها. 

تأخذ منظمة “هالو تراست” غير الحكومية، زمام المبادرة بالمساعدة بالتخلص من الذخائر غير المنفجرة مثل القنابل العنقودية، منعاً للإتجار بها كخردة وبيعها. إذ كان الأطفال والعاملون في الخردة يقدمون على جمع هذه المخلفات وبيعها، لكن تعميماً صدر من وزارة الدفاع السورية الجديدة منع محلات شراء الحديد السكراب والخردة من الاتجار بهذه المواد والإبلاغ عنها للحد من الحوادث القاتلة، كما يقول ابو حسين، وهو جامع خردة من بلدة كللي في إدلب، قررالتوقف تماماً عن العمل بهذا النوع من الخردة. 

تقول لمى حاج قدور، وهي قائد فريق للتخلص من الذخائر غير المنفجرة: “أكثر مخلفات الحرب شيوعاً في منطقة جنوب سراقب والقابلة للانفجار هي القنابل العنقودية. وتُعتبر شديدة الخطورة والحساسية، وغالبًا ما تنفجر عند ملامستها أو حركتها الطفيفة”.

وبينما يشرح لنا زميلها، وهو مسؤول التخلص من الذخائر المتفجرة، خطوات التخلص من الذخائر، ورد طلب من إدارته بضرورة التحرك للتعامل مع مقذوف “قنبلة” يريدون التخلص منه بعد أن أبلغ عنه أحد السكان. 

اتضح له بعد معاينة المكان وبحسب شرحه “أنّ القنبلة العنقودية نُقلت (تم نقلها) من موقع آخر، وأن الأرض التي عُثر عليها فيها مباشرةً لم تُصب بذخيرة عنقودية من قبل. وقد حُدّدت الذخيرة على أنها من نوع “صقر النوع ب”، تزن 0.2 كغم وتحتوي على 0.033 غراماً من المواد المتفجرة. وهي ذخيرة مزدوجة الاستخدام (انفجارية وشظوية)”.

بدأت العملية بتجهيز الشحنة المتفجرة وإنشاء محيط أمان مُحكم، ثم تم التخلص من القنبلة وتفجيرها عن بعد. يُخرج رجل رأسه من نافذة بيته الأرضي بعد أن انتهت العملية، ويقول: “خلصتوا.. الآن أستطيع أنْ أرسل ابنتي إلى المدرسة”. 


الطلب على الخردة لا يزال مستمراً

تُعدّ خردة المعادن شريان حياة للكثير من السوريين حتى يبدأ الاقتصاد السوري بالتعافي. يقول فاروق المصطفى، من منظمة “هالو ترست” إنّ “هناك حاجة ماسة، والناس يعتبرون هذه المناطق [المليئة بالأنقاض] لغماً”. ويضيف: “شهدَ هذا الشهر [ايلول/سبتمبر 2025] أربع وفيات، ثلاثة منهم أطفال”.

اليوم وبعد سقوط النظام السوري، تم حلّ الفرقة الرابعة ومعها الجيش، وآلت إدارة العمل في الشركة السورية للمعادن للحكومة الجديدة، حيث انتقل مقر الشركة من حي المزة بدمشق إلى منطقة عدرا الصناعية (15كم من دمشق)، كما قال لنا أحد السكان الذين يسكنون بجوار المقر السابق للشركة السورية للمعادن، عندما زرنا المكان في أيلول/سبتمبر الماضي. 

وبحسب من قابلناهم من تجار وسماسرة وأصحاب مراكز تجميع، لا تزال آلية العمل نفسها كما هيَ، لكن من دون املاءات عناصر الفرقة الرابعة ومن دون عمليات الترفيق. 

يقول تاجر خردة كان قد انتهى للتو من توصيل شحنة خردة الى معمل صَهر الحديد في منطقة عدرا الصناعية، وتزن 6 أطنان: “عندما دخلت من باب المعمل، قالوا لِي: “لماذا سيارتك خفيفة؟ أين الحديد الثقيل؟ البضاعة الخفيفة لا نريدها بل نريد البضاعة الثقيلة”.


  • أُعِدَّ هذا التحقيق بدعم من صندوق الصحافة الأوروبي – Journalism Fund- Europe. 
  • ساهم في إعداد التحقيق: ريتشارد سلامة (لبنان)، مُصعب الياسين (سوريا).  
  • نشرت نسخة من هذا التحقيق باللغات الانكليزية (TNA) والإسبانية (El Pais).
  • تم تغيير الأسماء الحقيقية للأطفال في هذا التحقيق لأسباب تتعلق بحمياتهم وحماية خصوصياتهم. 
  • التنسيق الإبداعي والحلول البصرية: رضوان عواد.
  • تحرير وتدقيق: منار الرشواني.

اترك تعليقًا

التسجيل غير مطلوب



بقيامك بالتعليق فإنك تقبل سياسة الخصوصية

لا يوجد تعليقات