Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit

جلّادو الطابق السابع .. أطباء الأسد فروا من مستشفى حرستا العسكري إلى ألمانيا

تحقيق جديد ضمن مشروع ملفات “دمشق” للوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج يكشف عن وجود 18 طبيباً ممن عملوا في مستشفى حرستا العسكري سابقاً في ألمانيا بينهم من لازالوا يمارسون الطب في أدوار قيادية، ويتهمهم ناجون بتعذيبهم وإجراء عمليات لهم دون تخدير.

صباح الثاني عشر من شباط/فبراير 2013، وصلت إلى مستشفى حرستا العسكري المعروف بـ”المستشفى 600″ سيارة من أحد الأفرع الأمنية التابعة لنظام الأسد المخلوع، في تلك السيارة وضعت ثماني جثث لأشخاص مجهولي الهويّة.

بدت على الجثث آثار التعذيب والتجويع. لكن على الفور أصدر ثلاثة أطباء في المستشفى وهم: الطبيب المقيم “س. ب” ورئيس شعبة الإسعاف “ع. ح.” ورئيس الأطباء “م. ع.”، تقريراً يفيد أنهم جميعاً توفوا نتيجة “سكتة قلبية وتوقف تنفس”.

المستشفى الذي حظي لسنوات بسمعة “طيبة” بين العسكريين وعائلاتهم، وضمّ نخبة من الأطباء المعروفين في سوريا، كان يخفي خلف جدرانه حقيقة أشدّ قتامة مما يروّجه نظام الأسد. 

في الطابق السابع من هذا المستشفى، خُصّصت مساحة كاملة لمعتقلي الأفرع الأمنية، حيث كانت تجري طقوس التعذيب والقتل الجماعي، لتُتبع لاحقاً بعمليات تزوير منهجية للتقارير الطبية لسبب الوفاة، تُشارك فيها قيادات طبية مرموقة داخل المستشفى ذاته.

ليس من قبيل الصدفة أن يتوفى ثمانية معتقلين في سجون الأسد نتيجة “سكتة قلبية”، بل هي “ديباجة” طبية اتبعها النظام لسنوات طويلة منذ انطلاق الثورة عام 2011 لتغطية جرائم القتل تحت التعذيب في سجونه وفروعه الأمنية، مستغلاً سلطته على المستشفيات العسكرية التابعة لإدارة الخدمات الطبية في الجيش السوري بواسطة أطباء مارسوا التعذيب وتزوير التقارير الطبية حول وفاة آلاف المعتقلين السياسيين لدى النظام.

كل شيء بدا للأطباء طبيعياً: تزوير أسباب الوفاة، وضع التوقيعات لإعطاء الوفاة صفة رسمية، حسب وثيقة حصرية لاستقبال الجثث عاينها فريق التحقيق، ثم نقل الجثث إلى المقابر الجماعية. وبعد فترات طويلة من الخدمة على نفس المنوال، أصبح التزوير عادة ومنهجاً يقوده وينفذه هؤلاء الأطباء والممرضون الذين لا يزالون يعيشون بيننا، سواء داخل سوريا أو في ألمانيا، البلد الذي استقبل ملايين السوريين كلاجئين فارين من المجازر والقتل الجماعي. إذ فر أولئك الأطباء إليها لاحقاً، إلا أننا تمكنا من تتبعهم، على ما يكشف هذا التحقيق الممتد على مدار ثمانية أشهر. 

في هذا التحقيق المشترك بين الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية “سراج”، والاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين “ICIJ”، وهيئة الاذاعة والتلفزيون  العامة الألمانية “NDR” وصحيفة جنوب ألمانيا (زود دويتشه تسايتونغ) ضمن مشروع “ملفات دمشق”، نكشف عبر وثائق حصرية اطلعنا عليها من المستشفيات العسكرية، كيف ساهم عشرات الأطباء، ومنهم من لا يزال يمارس الطب بألمانيا، في تعذيب المعتقلين، وتزوير أسباب وفاتهم في سجون الأسد والمنشآت الطبية..

تشمل الوثائق أيضاً أكثر من سبعين شهادة وفاة صادرة عن مستشفى حرستا، وُقّعت هذه الوثائق من قبل أطباء من المستشفى. 

شكلت “سراج” بالتعاون مع الشركاء فريقاً من الصحفيين الاستقصائيين وصحفيي المصادر المفتوحة والباحثين، ومن خلال  الوثائق وروايات الناجين والشهود ممن عملوا سابقاً في مستشفى حرستا العسكري، باستخدام تقنيات المصادر المفتوحة، حصلنا على أدلة تشير إلى أنّ 18 طبيباً سورياً على الأقل ممن عملوا في المستشفى العسكري “سيئ الصيت” سابقاً ويقيمون اليوم في ألمانيا، وبعضهم يتبوؤن مناصب قيادية في مستشفياتها.

ومن بينهم طبيب يُزعم أنه عالج أحد المعتقلين الذين قابلهم فريق التحقيق دون تخدير، ويدعى نائل. 

يندرج التحقيق ضمن مشروع “ملفات دمشق”، وهو مشروع تحقيقات استقصائي تشاركي يديره “الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ICIJ” بالتعاون مع هيئة البث العامة الألمانية NDR بمشاركة 126 صحافياً من 26 منصّة إعلامية شريكة في 20 دولة، أمضوا  أكثر من ثمانية أشهر في تنظيم الوثائق وتحليلها، واستشارة الخبراء، وإجراء مقابلات ورسم خيوط تتبع لهؤلاء الأطباء المختفين الآن ببدلات بيضاء، تخفي ماضيهم في المستشفيات العسكرية التابعة لنظام الأسد الوحشي.

تشير التقديرات الرسمية إلى  أنه يوجد حوالي 7 آلاف سوري مسجلون كأطباء في ألمانيا.

من مستشفى حرستا إلى ألمانيا

تتبع فريق التحقيق هويات الأطباء منذ اللحظة الأولى للاطلاع على الوثائق، في محاولة معرفة أماكن تواجدهم ومصيرهم بعد سقوط نظام الأسد وأدوارهم المختلفة في آلية القتل والتعذيب التي أدارها النظام وطحنت حيوات آلاف السوريين على مدى سنوات الثورة.

وتحدّث فريق التحقيق إلى الطبيب “أ” المتواجد في ألمانيا والذي اتهمه أحد المعتقلين السابقين في مستشفى حرستا بتعذيبه وإجراء عملية له دون تخدير. وأكد الطبيب أنه كان ممن يسمح لهم الدخول إلى الطابق السابع، واعترف بحصول تعذيب ممنهج في ذلك الطابق، إلا أنه أنكر بشدة ارتكابه لأي جرم أو إخلال بمهنة الطب، مدعياً أنه لم يخالف أي أخلاقيات مهنية خلال فترة عمله هناك. لكنها رواية تبدو محل شك أمام التفاصيل “المرعبة” التي ذكرها الشاهد حول التعذيب الذي مارسه الطبيب بحسب كلامه.

من غير المعروف حتى يومنا هذا اذا ما كان هؤلاء الأطباء مارسوا هذه الأعمال طواعية أو أُجبروا عليها بحكم عملهم في المستشفيات التي شهدت تصفية المعتقلين.

تظهر الوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق، مشاركة 36 طبيباً في أربع مستشفيات عسكرية بالتوقيع على وثائق وفاة تضم في غالبيتها الساحقة “سكتة قلبية و توقف تنفس” كسبب للوفاة، وتشمل 92 معتقلاً منهم 38 شخصاً مجهولي الاسم. وباستثناء وثيقة واحدة لا تشير الوثائق إلى تسليم الجثث لذويها أو معرفة مصيرها. 

هذه الوثائق تشير إلى احتمالية كبيرة لمشاركة هؤلاء الأطباء بشكل فعال في إخفاء نظام الأسد للأدلة على مقتل الآلاف من السوريين تحت التعذيب في سجونه وفروع الأمن.

تحقق فريق التحقيق من الوثائق التي وقع عليها الطبيب “أ” خلال عمله في مستشفى حرستا العسكري، ووجدنا أنه وقع على تقارير طبية تفيد بأن 14 معتقلاً توفوا نتيجة “توقف قلب وتنفس” و”سكتة قلبية”، بينهم جثث مجهولة الهوية جُلبت من فرع الخطيب، المعروف أيضاً بالفرع 251، والتابع لجهاز أمن الدولة.

تتبع فريق التحقيق نشاطات الطبيب المذكور على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتبين أنه كان يمتلك علاقة طيبة بطبيب آخر كان من الأطباء المقيمين في مستشفى حرستا وهو “س”، 

الطبيب الذي كان أحد الموقعين على وثيقة وفاة ثمانية معتقلين مجهولي الهوية، وتكرر اسمه عدة مرات في شهادات ناجين اتهموه بتعذيبهم خلال عمله في المستشفى.

يقدم أحد منشوراته دليلاً إضافياً على عمله في المستشفى حيث يودع زملاءه من الأطباء والممرضين العاملين هناك.

وفي منشور آخر بتاريخ 3 تموز/يوليو 2013، نشر صورة لهاتف يدعي أنه حصل عليه من “مقاتل جريح”. وكتب: هناك دائماً بعض الوقت لسؤال مقاتل جريح عن أشياء لا علاقة لها بالحرب والموت والإرهاب والثورة وإخراجه من أجواء تورا بورا، لكنني أرى ما أرى، أنا أسأل وهو يجيب”.

وطبقاً للوثائق فقد وقّع “س” على تقارير طبية تفيد بوفاة 8 أشخاص نتيجة “توقف قلب وتنفس” و”سكتة قلبية”. 

يقول الخبير الحقوقي المعتصم الكيلاني: “إنّ إصدار وثائق وفاة بأسباب مغايرة للأسباب الحقيقية للوفاة تحمل الأطباء مسؤولية جنائية مباشرة بالتواطؤ في جرائم القتل تحت التعذيب والمشاركة في طمس الأدلة طبقاً للمادة الرابعة من اتفاقية مناهضة التعذيب”. 

من خلال تفقد سجلات العمل في مستشفى حرستا، تأكد فريق التحقيق، من أن جميع الأطباء المذكورين عملوا بالفعل في ذلك المستشفى وأن التواقيع بخط يدهم تتطابق مع تواقيعهم على تقارير الوفاة الخاصة بالمعتقلين القادمين من فرع الخطيب، ولم نعثر على أي أدلة تدحض روايات الشهود والناجين.

لمضاعفة نتائج التحقق من روايات الشهود ومطابقة التواقيع، أجرى فريق التحقيق عدة مقابلات مع الأطباء الذين عملوا سابقاً في مستشفى حرستا العسكري ويقيمون حالياً في ألمانيا، وأكدوا جميعاً صحة روايات الناجين عن عمليات التعذيب الممنهجة التي كانت تجري في الطابق السابع من المستشفى. وبحسب كلامهم فإن معرفتهم هذه تعود لسماعهم أصوات الصراخ من الجناح المذكور، أو رؤية جثث المعتقلين الهزيلة في غرف المستشفى.

في البداية، أنكر جميع الأطباء في المقابلات أي دور لهم في المشاركة في عمليات التعذيب التي جرت بمعرفتهم في المستشفى، وادعى بعضهم أنه لم يسمح لهم بالعمل أساساً في جناح المعتقلين في الطابق السابع، والذي كان الدخول إليه محدوداً جداً. 

فيما قال آخرون “أنهم مارسوا عملهم الطبي بشكل طبيعي، وأن جميع القرارات كانت بيد العناصر العسكرية المتواجدة في جناح المعتقلين”.

تعليقاً على هذه الأدلة، قالت المدّعية العامة السويدية، رينا ديفغون: “إن هذا النوع من الأدلة يصبح حاسماً في بناء القضايا، سواء لإثبات الطابع المنهجي للجرائم وهو شرط أساسي لإثبات جرائم ضد الإنسانية، أو لإثبات مسؤولية الأطباء والعاملين داخل المستشفيات الذين “كان ينبغي لهم أن يعرفوا ما يحدث داخل هذه الوحدات، بسبب النطاق الهائل للتعذيب والوفيات”.

تقرير طبي وقعه الطبيب حول وفاة معتقل وصل لمستشفى حرستا العسكري

الطابق السابع: التعذيب بلا هدف

في الطابق السابع من مستشفى حرستا، كان يقع الجناح الذي يفترض أن يعالج فيه المعتقلون القادمون من فروع الأمن نتيجة الأمراض أو الحالات التي تتطلب العناية الطبية. إلا أنّ روايات الناجين والمقابلات التي أجراها فريق التحقيق مع أكثر من 12 شاهداً، بينهم أطباء وممرضون كانوا مطلعين على ما حصل في المستشفى، أكدت حقيقة أن ما جرى في هذا الطابق هو حفلات مستمرة من التعذيب والضرب والإهانة والتلذذ بإيلام الموقوفين بأبشع الطرق.

فراس الشاطر، كان واحداً من هؤلاء المعتقلين، ومن القلائل الذين كُتبت لهم النجاة من “المسلخ الطبي” في مستشفى حرستا كما يقول. وصل الشاطر إلى المستشفى من أحد فروع الأمن في عام 2012، وفور وصوله مُنح رقماً ثم عصبت عيناه، ونقل إلى جناح المعتقلين حيث رمي على سرير رفقة معتقلين آخرين. 

يتذكر الشاطر بمرارة الآلام التي عاناها من التعذيب في مستشفى حرستا، ويقول: “في فرع الأمن يعذبونك خلال التحقيق بهدف انتزاع اعترافاتك، لكن في حرستا يعذبونك 24 ساعة بلا هدف”.

يصف الشاطر وشهود آخرون كيف كان عناصر الجيش والأمن يضربون المعتقلين في المستشفى. ولأنهم معصوبو الأعين، كانوا يتوقعون الضرب في أي وقت وبالكاد ينامون. كما أكد جميع الشهود مشاركة الطواقم الطبية في حفلات الضرب والتعذيب. ولا زال الشاطر يذكر تماماً كيف أطفأت ممرضة سيجارتها في قدمه دون أي سبب، ويقول أنه خلال اعتقاله في المستشفى أطفأ الممرضون والأطباء أكثر من 200 سيجارة في مختلف أنحاء جسمه دون أن يتلقى أي علاج.

ويرجح الشاطر أن مشرحة المستشفى كانت تكتظ في بعض الأيام لدرجة تجبر الأطباء على وضع الجثث في الممرات، ويضيف “سميته مستشفى الموت.”

مستشفى الشهيد محمد عبيسي والمعروف باسم مستشفى حرستا العسكري – زمان الوصل.

نائل المغربي الذي يعيش اليوم في مدينة شتوتغارت في ألمانيا كان أيضاً من ضحايا التعذيب في مستشفى حرستا. إذ في العام 2012 أطلق جنود من الجيش السوري النار عليه من مسافة قريبة وأصابوه  في قدمه، ثم قاموا بتعذيبه وتصوير فيديو ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي.

نُقل نائل جراء إصابته إلى مستشفى حرستا العسكري، حيث تعرض، كما يروي، للتعذيب على يد الطبيب “أ” والذي قام بتثبيت مسامير في عظام قدمه دون تخدير. ويقول: “صرخت من الألم حتى أغمي علي”، ثم وضع الطبيب الكحول تحت أنف نائل لإيقاظه قبل أن يستكمل العلاج المؤلم. “قال لي عنصر إن الألم شرط لعلاج المعتقلين”.

لا يزال مستشفى حرستا العسكري مغلقاً منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، لكن أدراجه بلا شك لا زالت تضم آلاف الوثائق التي تشير إلى أسماء المتورطين في جرائم التعذيب والقتل التي مورست بحق ضحايا النظام على مدى سنوات الثورة السورية.

رحلة القتل 

في 19 آذار/مارس 2013، أسعف معتقل لدى الفرع 251 في أمن الدولة أو “فرع الخطيب” إلى مستشفى حرستا العسكري.

وبحسب وثيقة صادرة عن رئيس الفرع فإن المعتقل الذي يصفه بـ “الإرهابي المسلح” توفي بتاريخ 25 آذار/مارس 2013 مصاباً “بالتهاب السحايا” وأودعت جثته في براد في المستشفى.

طبقاً لأوامر رئيس الفرع فإنه سمح لإدارة المستشفى بتسليم الجثة لذويه عبر إبلاغ صادر عن الشرطة العسكرية. 

هذه العائلة كانت الوحيدة التي سُمح لها بمعرفة مصير ابنها واستلام جثته، بحسب عشرات الوثائق التي اطلعنا عليها، فيما لا زالت بقية العائلات لا تعلم شيئاً عن مصير أبنائهم والفظائع التي أودت بحياتهم قبل أن يتم تزوير أسباب وفاتهم في المستشفيات.

وثيقة صادرة عن رئيس الفرع 251 بتسليم جثة معتقل إلى ذويه بعد وفاته في مستشفى حرستا العسكري – سراج/ICIJ/ NDR

 

اطلع فريق التحقيق على عشرات الوثائق الصادرة عن أربع مستشفيات عسكرية تابعة لإدارة الخدمات الطبية العسكرية ووزارة الدفاع في نظام الأسد المخلوع وهي: مستشفى حرستا العسكري “المستشفى 600″، ومستشفى تشرين العسكري في ريف دمشق، ومستشفى 601 العسكري، في منطقة المزة بدمشق، ومستشفى الهلال الأحمر في شارع بغداد في دمشق.

وتظهر الوثائق التي اطلعنا عليها وفاة 92 موقوفاً بينهم 38 جثة مجهولة الهوية معظمهم من المعتقلين لدى فرع الخطيب.

وتقول المدّعية العامة السويدية رينا ديفغون، إنّ المواد التي يجري الكشف عنها اليوم من صور ووثائق وتقارير طبية تحمل أهمية استثنائية لأنها لا تقتصر على إظهار حجم الانتهاكات فحسب، بل تُثبت أيضاً منهجية التعذيب داخل وحدات الاستخبارات السورية والمستشفيات العسكرية.

تضيف ديفغون: “هذا النوع من الأدلة هو ما يسمح لنا قانونياً ببناء قضايا تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.

تتكرر في الوثائق الصادرة عن المستشفيات العسكرية والتي وقع عليها أطباء مقيمون ومنابون ورؤساء أقسام الإسعاف والأطباء في المستشفيات منهجية واضحة في تشخيص أسباب وفيات المعتقلين الذين يتم إحضارهم من فروع الأمن: يصل المعتقلون متوفين إلى المستشفيات من إدارة المخابرات العامة، يحضر الأطباء المقيمون والمناوبون ورؤساء الأطباء في المستشفى لكتابة التقرير الطبي وتوقيعه ويتكرر تشخيصات “السكتة القلبية” و”توقف التنفس” في مئات الوثائق رغم أن العديد من صور الجثث المرفقة التي اطلعنا عليها تظهر علامات واضحة على التعذيب والهزال الشديد نتيجة التجويع في فروع الأمن. 

وثيقة صادرة عن مستشفى حرستا العسكري توثق وفاة 8 معتقلين بـ “سكتة قلبية” – سراج/ICIJ/ NDR

سياسة تزوير الأدلة المممنهجة لدى النظام لم تقتصر فقط على إصدار التقارير الطبية بأسماء الأطباء، بل في العديد من الحالات التي عاينها فريق التحقيق تم إصدار وثائق من مستشفى المزة العسكري (601) يوقع عليها الأطباء “شهوداً” على وفاة معتقلين في تاريخ معين نتيجة توقف القلب والتنفس ووصولهم متوفين إلى المستشفى.

لا تشير الوثائق والأوامر الإدارية الصادرة عن المستشفيات إلى مصير كل تلك الجثث بعد ذلك، إلا أن الشهادات والأدلة التي جمعناها من الشهود والمصادر المفتوحة تشير إلى وجهة واحدة: المقابر الجماعية.

تحدث فريق التحقيق إلى طبيب عمل لمدة 6 أشهر في مستشفى حرستا العسكري في العام 2012، السنة التي تشير إليها عشرات الوثائق التي اطلع عليها فريق التحقيق. وخلال عمله في المستشفى اطلع الشاهد على أدق التفاصيل المروعة حول عمليات جلب جثث المعتقلين إلى المستشفى ومن ثم تصويرها ووضعها في الشاحنات ونقلها إلى المقابر الجماعية. 

هذه الشهادة مكنتنا من رسم مخطط كامل لعمليات نقل الجثث في مستشفى حرستا العسكري بمطابقة التفاصيل مع صور الأقمار الصناعية من العامين 2012 و2013.

صورة بالأقمار الصناعية لمستشفى حرستا العسكري تظهر مواقع تخزين الجثث وتصويرها وخزانات التبريد التي تنقلها إلى المقابر الجماعية – المصدر: ماكسار

وأكد الطبيب أنه شاهد بعينه خلال خدمته في العام 2012، كيف كان يتم ملء خزانات التبريد البيضاء (الموقع 3) بأكياس الجثث السوداء الخارجة من المستشفى، واستطاع رؤية ذلك بوضوح من المبنى الذي كان يقيم فيه (الموقع 1)

خلال عمله في المستشفى تحدث مع عنصر في الجيش وسأله عن سبب وضع الخزانات في مهبط الطائرات المروحية ليجيبه العنصر بأن ذلك يهدف لإبعاد رائحة الجثث عن المستشفى.

كان يتم وضع الجثث في الأكياس في مكانين مختلفين، أولهما هو المدخل الخلفي لغرفة التبريد (الموقع 6) أو في مكان قريب حيث كان يتم تصوير الجثث (الموقع 2). كما كانت العديد من الصور تلتقط للجثث في موقع هبوط المروحيات (الموقع 5) المواجه لمقرات إقامة الأطباء، وذلك لضيق المساحات في غرف التبريد وتخزين الجثث.

بحسب شهادته، فإن الشاحنات لم تأت فارغة إلى المستشفى، بل كانت تحمل جثثاً أخرى وبقيت لأيام على  مهبط المروحيات بعد تحميلها بالجثث من مستشفى حرستا العسكري.

طبقاً لشهادة الطبيب أكمل خدمته العسكرية، فإن مستشفى حرستا كان يتعامل مع عدد محدد من الجثث يبلغ 1180 جثة بشكل أسبوعي. كانت مهمة هذا العسكري تتلخص في تسجيل الوفيات وقيادة خزانات التبريد لجمع الجثث من المستشفى.

وبحسب رواية الطبيب، فإن هذا العسكري انتحر في وقت لاحق، إلا أنه يشتبه أنه تم قتله لأنه كان يعلم الكثير من التفاصيل عن عمليات نقل الجثث وتحدث عنها لآخرين.

وأكد أنه وخلال عمله في المستشفى كان يلاحظ دائماً تسرب “سائل أحمر” من خزانات التبريد وهو ما يعتقد أنه تسرب لدماء الجثث من داخل الخزانات. وتظهر صور الأقمار الصناعية تطابقاً مع رواية الطبيب حيث تظهر صور لاحقة لتحريك الخزانات من موقعها وجود لطخات حمراء في مواقع كانت تتمركز فيها خزانات التبريد في وقت سابق قبل نقلها للجهة الأخرى من مهبط المروحيات.

صورة بالأقمار الصناعية لآثار يحتمل أنها لدماء في موقع وقوفبرادات تخزين ونقل الجثث في مستشفى حرستا العسكري – المصدر: ماكسار

التعذيب على السرير 

لم يكن مستشفى حرستا العسكري، سوى واحد من عدة محطات في منظومة طبية حوّلها النظام إلى امتداد مباشر للمسالخ  البشرية السرية.

يقول أحد المعتقلين السابقين وكان  أُلقي القبض عليه بتهمة التخطيط للانشقاق، إنّه نُقل من سجن صيدنايا إلى مستشفى تشرين العسكري لتلقي “العلاج” من حالة جرب حادّة، وذلك في عام 2012 أو 2013.

ويضيف أنّه لم يكن الوحيد في تلك الرحلة، فقد اقتيد مع ثلاثة معتقلين ما يزالون على قيد الحياة، وستة جثث، وأربعة أشخاص “بين الحياة والموت”.

وعند وصولهم إلى المستشفى، سلّمه الموظفون عشرة أكياس جثث وأمروه بوضع “النزلاء” فيها.

في البداية ظنّ أن عدد الأكياس يفوق عدد الجثث، لكنّه سرعان ما أدرك السبب: فقد قام موظفون في المستشفى بخنق المعتقلين الأربعة الذين كانوا لا يزالون يتنفسون بصعوبة، ثم طلبوا منه وضعهم جميعاً في الأكياس. كان عليه كما يقول أن يجرّ الأكياس على الدرج ويرميها في حاوية كبيرة وُضعت خصيصاً لهذا الغرض.

بعد ذلك، صعدوا به إلى أحد الطوابق العليا حيث عُرض على طبيب لم يقدّم له أي علاج سوى حبتَي (مضاد التهاب) إيبوبروفين، رغم حالته الصحية المتدهورة. ويؤكد أنّه طوال فترة وجوده في المستشفى كان يتعرض للإهانة والإذلال من الطاقم الطبي والعسكري، وأنه حين ذهب إلى الحمام صُدم بمشهد عشرات الجثث المكدّسة فوق بعضها في المكان نفسه.

ملاحقة دولية 

لا زالت محاكمة الطبيب السوري علاء الموسى وحكم السجن المؤبد الصادر بحقه ترزح بثقل على صدور المشاركين في انتهاكات حقوق الإنسان لدى النظام السوري وخصوصاً أولئك الذين غادروا البلاد إلى دول أوروبية مثل ألمانيا حيث جرت محاكمة الموسى. 

المحاكمة التاريخية التي جرت في فرانكفورت كان لها سبق هام جداً، فهي لم تكن محاكمة لضابط أمني أو عسكري بل لطبيب، وفتحت الطريق أمام فهم أكبر وإمكانية أوسع لمحاسبة جميع المشاركين في آلة القتل بما في ذلك الأطباء الذين ساعدوا النظام على طمس الأدلة أو انتزاع الاعترافات من المعتقلين ضمن الولاية القضائية الدولية لملاحقة أدوات نظام الأسد خارج الحدود.

يقول الخبير القانوني السوري والمتخصص في القانون الجنائي الدولي، المعتصم الكيلاني: “إن لقانون الدولي يدين المشاركة في جريمة تعذيب المعتقلين سواء تم ذلك بالمشاركة المباشرة أو التواطؤ أو حتى السكوت عن عمليات التعذيب أو ممارسة أي إجراءات تخالف السلوكيات المهنية الطبية مثل إجراء العمليات بدون جراحة أو المشاركة في الاستجواب بهدف انتزاع اعترافات من المعتقلين، وهي جميعها انتهاكات مباشرة لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب”.

في تعليقها على نتائج التحقيق، قالت نائبة رئيس نقابة الأطباء في ألمانيا، سوزان جونا، إنه يتوجب على السلطات الألمانية متابعة ما توصل إليه التحقيق بأسرع وقت ومعاينة جميع الأدلة في هذه القضية.

وتضيف جونا: “الأطباء السوريون هم ركن لا يُمكن التخلي عنه في القطاع الطبي الألماني، ولهذا السبب يتوجب معرفة وتحديد القلائل منهم الذين شاركوا في عمليات التعذيب في سوريا”، مؤكدة إنه لا يجب السماح لأي طبيب شارك في عمليات التعذيب بممارسة الطب في ألمانيا بأي شكل كان.

ونظرًا للخصائص الخاصة للقانون الجنائي الدولي، يمكن للمدعي العام الاتحادي الألماني أيضًا مقاضاة الجناة الذين ارتكبوا جرائمهم في الخارج، حتى لو لم يكن الضحايا مواطنين ألمان.


  • التنسيق الإبداعي والحلول البصرية: رضوان عواد.

  • شارك في جمع المعلومات والبحث مودة كلاس.


اترك تعليقًا

التسجيل غير مطلوب



بقيامك بالتعليق فإنك تقبل سياسة الخصوصية

Marwan Al EshDecember 4, 2025 3:56 pm
#صحافة_إستقصائيه و #نظام_القتل_والتوثيق تتضمَّن #الوثائق التي عثر عليها الفريق #مستندات مكتوبة و #تسجيلات صوتيّة و #فيديوهات، و #حواسيب و #أقراص_تخزين الذاكرة، و #مُقتنيات شخصيّة لمُعتقلين سابقين" #ملفات_دمشق #الحقيقة_المرة !!! ⁨ ⁨ #ملفات_دمشق، مشروع استقصائي جديد يقوده الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ICIJ وشبكة NDR الألمانية بالتعاون مع 24 شريكًا إعلاميًا من بينهم موقع “درج”، من 20 دولة حول العالم، يكشف ما حاول نظام الأسد إخفاءه لسنوات. @ مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين SDC