بعد صفقة تبادل “أسرى” بين النظام السوري والمعارضة عام 2018، استعادت أمامة غبيس حقها الطبيعي في احتضان ابنتيها ليلى (11عاماً ) وليان (7 سنوات) بعدما قضتا ثلاث سنوات بعيدتين عنها في قرى الأطفال بقرار أمني حيث أُودعتا بقرار من فرع المخابرات الجوية عقب اعتقال الوالدين وعدد من أفراد العائلة، بمن فيهم والدة أمامة وزوجة أخيها. بسبب نشاط شقيقها الطبي في غوطة دمشق التي كانت تسيطر عليها المعارضة السورية حينها.
تمكّنت إمامة غبيس من استعادة ابنتيها بعد أن استخدمهما نظام الأسد ورقة تفاوض في صفقة تبادل. كانت قد أمضت سنوات متنقّلة بين الأفرع الأمنية، حيث تعرّضت للتعذيب وسوء المعاملة على مرأى من طفلتيها قبل أن يُفصلن عنها قسرًا.
لم تكن ليلى وليان الطفلتان الوحيدتان اللتان استخدمهما النظام السوري رهائن حرب ليساوم عليهم في المفاوضات؛ حيث تكشف سجلات المخابرات السورية التي حصل عليها فريق التحقيق أن المسؤولين الأمنيين أصدروا أوامر صريحة بإخفاء عشرات الأطفال في دور الأيتام بهدف الضغط على ذويهم للتعاون مع النظام. ولم يُسمح لكثير من هؤلاء الأطفال بالعودة إلى أسرهم إلا في إطار صفقات تبادل للأسرى مع فصائل المعارضة المسلحة.
ليلى وليان اعتُقلتا وهما لا تزالان في سن الطفولة. تصوير Jess Kelly.
خلال تسعة أشهر، بنى صحفيون سوريون في الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية- سراج (SIRAJ)، وصحفيون دوليون من وسائل إعلام تضم لايتهاوس ريبورتس (Lighthouse Reports)، ذي أوبزرفر (The Observer)، دير شبيغل (Der Spiegel)، تراو (Trouw)، ونساء ربحن الحرب (Women Who Won the War)، بالإضافة إلى BBC Eye قاعدة بيانات للأطفال الذين أخفاهم النظام السوري السابق في إطار تحقيق “أطفال سوريا المسروقون”.
حصل الفريق على آلاف الوثائق الرسمية من وزارة الشؤون الاجتماعية والمخابرات الجوية ودور الأيتام، تضم مراسلات وقرارات إحالة وسجلات أرشيفية تكشف عن انتهاكات واسعة، جرى التحقق منها عبر مصادر مفتوحة وتقارير حقوقية وسجلات قضائية. كما أُجريت أكثر من 100 مقابلة مع عائلات وموظفين ومسؤولين ومبلّغين، وأُنشئت قاعدة بيانات تضم أكثر من 323 طفلًا أحيلوا من فروع أمنية إلى دور رعاية.
أظهرت الوثائق أن أعمار 187 طفلًا تراوحت بين حديثي الولادة و16 عامًا، بينهم 72 دون الثالثة و14 رضيعًا من إجمالي 323 طفلاً. ووصِفوا بأنهم “حالات أمنية”، أي رهائن استُخدموا للضغط على ذويهم أو في صفقات تبادل.
و توضح الوثائق أنّ الأطفال نُقلوا إلى دور الأيتام عبر قنوات أمنية متعددة، في الغالب المخابرات الجوية السورية ، والأمن العسكري (الفرعان 227 و235)، وإدارة المخابرات العامة – الفرع 251. وجرت هذه الإحالات رسميًا من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية ومحافظي دمشق وريف دمشق، ما يعكس شبكة معقّدة من التنسيق بين الأجهزة الأمنية والجهات الحكومية.
تُظهر وثائق المخابرات الجوية أن المسؤولين الأمنيين أصدروا أوامر متكررة باحتجاز الأطفال ونقلهم إلى دور الأيتام، مع تبريرات صريحة مثل “الاستفادة منهم في المفاوضات” أو “استخدامهم في عمليات التبادل”. وشملت هذه العمليات حالات فردية للضغط على مطلوبين، وأخرى أوسع ضمن صفقات تبادل ضمّت مجموعات من ضباط النظام المعتقلين لدى فصائل المعارضة.
قال عمر محمود (أبو البراء)، مدير المكتب الإعلامي في وزارة الشؤون الاجتماعية، إن الوزارة سجلت نحو 320 طفلًا في يناير/ كانون الثاني، وفي مايو/ أيار شُكّلت لجنة جديدة أعلنت العثور على 314 طفلًا فقط. لكن هذا الرقم يبدو أقل بكثير من الواقع، إذ تشير قاعدة بيانات فريق التحقيق، وكذلك عمل “المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا” (IIMP) التابعة للأمم المتحدة، إلى أن العدد الفعلي أكبر بكثير. فقد ذكرت المؤسسة في سبتمبر أن مراجعتها الأولية وجدت ما يقارب 400 حالة، مؤكدة أن الرقم الحقيقي قد يكون أعلى بكثير مما تكشفه السجلات الرسمية.
وكشفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن العائلات ما تزال تبحث عن نحو 3,700 طفل فقدوا خلال عهد نظام الأسد، ما يعكس حجم المأساة مقارنة بالسجلات الرسمية.
أربع دقائق فقط
على مدى ثلاث سنوات من اعتقالها، لم تُسمح لأمامة غبيس برؤية ابنتيها إلا مرتين. في 4 أغسطس 2015، اعتُقلت مع زوجها وابنتيها ليلى وليان، ونُقلوا للتحقيق، حيث تعرّض الزوج للتعذيب.
الأختان ليان وليلى، البالغتان من العمر أربع وثماني سنوات عند اعتقالهن، حُشرتا مع والدتهما في زنزانة تحت الأرض خانقة لأكثر من أسبوع. تم استبدال أسمائهما بأرقام: 446-1 و446-2. كانت والدتهما تحمل الرقم 446. هددها أحد رجال المخابرات قائلاً: “ستبقين هنا إلى الأبد. سيتم أخذ ابنتيك إلى دار أيتام، ولن تريهما مرة أخرى.”
ليلى وليال بعد خروجهن من المعتقل. تصوير Jess Kelly.
اعتُقلت إيمان غبيس، زوجة شقيق أمامة، ووالدة أمامة نفسها مباشرة بعد الولادة، وتم الاستيلاء على الرضيع محمد، لاحقًا نشر ضابط في المخابرات صورة له مع الطفل عبر حسابه على واتساب، وكتب أنه سيُسميه “علي”.
وثيقة تظهر إحالة الطفل محمد عبد الرحمن غبيس من المخابرات الجوية إلى محافظة ريف دمشق لتأمين المأوى المناسب له
خلال ثمانية أيام في الزنزانة، شاهدت ابنتا أمامة آثار التعذيب على والدتهما. وعندما أُبلغت أمامة بنقلهما إلى دار للأيتام، استسلمت خوفًا عليهما. حاولت شرح الأمر لابنتها الكبرى ليلى، مطالبة إياها بحفظ أسماء الأقارب، بينما غفَت الطفلة الصغيرة ليان بجانب شقيقتها.
بعد انتزاعهما، وُضعت أمامة في زنزانة صغيرة بلا نافذة أو مرحاض، ولم تُسمح لها برؤيتهما إلا بعد أكثر من عام، لأربع دقائق فقط، لتكتشف أن بناتها أُودعن في قرى الأطفال (SOS) وبدأت الغربة تتجذر بينهنّ.
في بعض الحالات، وُضعت قيود مشددة تمنع حتى زيارة الأطفال لذويهم إلا بموافقة أمنية خاصة.
من داخل سجن المزة العسكري، حيث اعتُقلت أمامة غبيس – الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية، سراج.
خلال فترة سجنها، تمكنت زوجة أخ أمامة من رؤية ابنها محمد للمرة الأولى بعد مرور عام على ولادته، حين كان لا يزال في دار المبرة، قبل أن يُنقل لاحقًا إلى قرى الأطفال (SOS) بعيدًا عنها. ولم يتسنَّ لها رؤيته مرة أخرى إلا بعد أكثر من عامين.
في نهاية سجن أمامة، أُخبرت أن إطلاق سراحها مؤكد ضمن صفقة تبادل، لكن بناتها وابن أخيها ظلوا في دور الرعاية.
بعد جولات من المفاوضات، تمكنت أخيرًا من العثور على ابنتيها. بعد الإفراج عنه. في البداية، بقيت العائلة في المنطقة التي يسيطر عليها فصائل المعارضة ثم فرت سيرًا على الأقدام عبر الجبال إلى تركيا، حيث عاشوا هناك لمدة ست سنوات.
قبل عام، استقبلتهم الولايات المتحدة. تبلغ ليان الآن من العمر 14 عامًا، وليلى 18 عامًا. تقول أمامة غبيس: “كان لمّ شملنا كعائلة أمرًا صعبًا للغاية. لقد مرّ كلٌّ منا بالكثير بمفرده. شعرنا جميعًا بالعزلة. شعرنا أننا لا نستطيع حماية بعضنا البعض”.
ليلى وأمامة وليان في منزلهم بولاية بوسطن- الولايات المتحدة. 2025. تصوير Jess Kelly.
يوضح المحامي السوري مهند شرباتي أن ما جرى لا يقتصر على كونه مخالفة إجرائية، بل يُعد انتهاكًا جذريًا للقوانين، قائلاً: “الفصل القسري للأطفال عن عائلاتهم يشكّل خرقًا صارخًا للقانون السوري والقانون الدولي على حد سواء.”
ويؤكد شرباتي أن هذا النمط يرتقي إلى مستوى أشد خطورة: “عندما تُنفّذ هذه الانتهاكات بصورة واسعة النطاق أو ممنهجة ضدّ المدنيين، وبدلالة التنسيق المنهجي بين الأجهزة الأمنية والوزارات ودور الأيتام، فإنها ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية.” من طفلة محتجزة إلى ورقة تبادل أسرى
صورة من قرى الأطفال (SOS) في محافظة دمشق. تصوير ميس قات.
مصير غامض للأطفال المُعادين إلى “السلطات”
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 177,057 حالة اختفاء قسري بين عامي 2011 و2024 على يد نظام الأسد، ما زال مصير أصحابها مجهولًا.
شهادات العاملين السابقين أكدت أن الأطفال جاؤوا في حالة مروعة: مرعوبين، صامتين لأشهر، يعانون من القمل والجرب والأمراض الجلدية. تقول موظفة سابقة: “غالباً لم يتحدث الأطفال لشهور”.
وفقاً لتقارير أخرى، وصل أحد الرضع مرتدياً حفاضة متسخة فقط. في بعض الحالات، قيل إن الأطفال كان لديهم كدمات وجروح، على ما يبدو نتيجة سوء المعاملة في السجن.
أحيانًا كان الأطفال الأكبر سنًا يذكرون أسماء والديهم الحقيقية بأنفسهم. أخبرت إحدى الموظفات أن ليلى اعترفت أن اسمها الحقيقي هو ليلى غبيس، وليس ليلى مصعب كما سُمّيت في قرية الأطفال، وكان مصعب اسم والدها الأول.
كثير من الأطفال أعيدت تسميتهم بشكل مشابه، غالبًا قبل وصولهم إلى مرافق SOS.
منظمات دولية متورطة
في العديد من الحالات، لم يُذكر اسم دار الأيتام في الوثائق. لكن تمكّنا من تأكيد الوجهة التي أُرسل إليها 283 طفلًا؛ من بينهم جرى إرسال 103 أطفال إلى دور تديرها منظمة SOS International، مثل ليلى وليان. ورغم أن المنظمة، وهي مؤسسة نمساوية تعمل في أكثر من 130 دولة وتجمع نحو 1.6 مليار يورو سنويًا من الأمم المتحدة والحكومات الأوروبية والتبرعات الفردية، تتمتع بموارد ضخمة، إلا أنها فشلت في حماية الأطفال أو محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات التي تعرضوا لها
قادة المنظمة أخفوا الحقيقة حتى سقوط النظام، رغم إبلاغهم منذ 2017. إذ قال موظف رفيع في SOS: “المديرون التنفيذيون لم يرغبوا بمعرفة التفاصيل، وتهربوا من المسؤولية”.
يبقى من الصعب تحديد اللحظة التي أصبح فيها المقر الرئيسي لمنظمة SOS في النمسا على دراية بما يُعرف بـ “الحالات الأمنية’، لكن ما كان يجري في دمشق كان واضحًا منذ وقت مبكر. بين عامي 2013 و2018، شارك موظفون من المنظمة الأم في مشاريع داخل سوريا أو أشرفوا على تنفيذها بشكل مباشر. خلال تلك الفترة، أُدرج العديد من أبناء المعتقلين منذ عام 2013 ضمن برنامج الاستجابة الطارئة لقرى الأطفال SOS، وهو مشروع خضع لإشراف مباشر من المقر الرئيسي في النمسا. وفي آب/أغسطس 2015 صدر قرار بنقل فتاتين إلى أحد مقار SOS، ليتبيّن لاحقًا أنهما ليلى وليان غبيس.
خلال هذه الفترة، لم تعتذر المؤسسة الخيرية الدولية أو تقدم تعويضات أو دعمًا للعائلات. فيما أعيد معظم الأطفال إلى عهدة النظام. و لا تزال العديد من العائلات تنتظر معلومات من منظمة SOS بعد أشهر من طلبات المساعدة.
وبينما تزعم المنظمة أنها أوقفت استقبال أطفال المعتقلين عام 2018، تكشف وثائق رسمية أن الأجهزة الأمنية واصلت إحالة أطفال إليها حتى عام 2022، وهو ما تنفيه SOS.
في نيسان/أبريل من العام الحالي أعلنت SOS أن 81 من أصل 139 طفلًا من أبناء المعتقلين لم يمكثوا أكثر من ثلاثة أشهر، لكن بيانات فريق التحقيق من 48 عائلة أظهرت واقعًا مختلفًا: نحو نصف الأطفال (23) قضوا فترة قصيرة، بينما مكث 15 طفلًا أكثر من عام، وبعضهم بين ستة واثني عشر عامًا. كما أكدت عائلات وموظفون سابقون أن بعض الأطفال أُعيدت تسميتهم بأسماء مختلفة، ما صعّب تتبعهم وإعادتهم إلى أسرهم.
وقال موظف سابق إن “الأمهات البديلات” اللواتي تولّين رعاية أبناء المعتقلين مُنعن من السؤال عن خلفية هؤلاء الأطفال، وقد يكون ذلك بهدف تجنّب التمييز ضدهم. لكن بعض العاملين أشاروا إلى أن هذا الحظر ساهم في تعميق الغموض.
تقول SOS سوريا إنّه منذ شباط/فبراير 2025 لم يعد لديها أي أطفال من أبناء المعتقلين تحت رعايتها؛ إذ تمت إعادة 104 أطفال إلى “السلطات” بين 2014 و2019، فيما أُعيد 34 طفلًا (من بينهم 13 طفلًا روسيًا) إلى عائلاتهم بين 2014 و2022، بينما أُرسل طفل واحد إلى مركز خاص بالإعاقة.
أما مصير الأطفال الذين أُعيدوا إلى ما وصفته المنظمة بـ“السلطات”، فلا يزال غامضًا. إذ تؤكد SOS الدولية أنها لا تعلم ما الذي جرى لهم بعد التسليم، بينما تشير SOS Worldwide و هي جمعية عضو مقرها ألمانيا في منظمة SOS الدولية إلى أنها راجعت رسائل رسمية صادرة عادةً عن جهاز أمني أو عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل نيابةً عنه، تحمل صيغًا مثل: “إشارة إلى كتابنا السابق… يرجى تسليمنا الأطفال”
علاقة SOS مع أسماء الأسد
في عام 2015، تعاونت الأمانة السورية للتنمية التي ترأسها أسماء الأسد في مشاريع مشتركة مع دار الرحمة، كما شاركت في برنامج الاستجابة الطارئة لـ SOS سوريا بين 2012 و 2019.
زارت أسماء الأسد دور الأيتام بانتظام، وهناك أدلة على أنها زارت قرية SOS للأطفال في دمشق مرة واحدة على الأقل، في ربيع 2024.
ويكشف تقرير مالي داخلي صادر عن الأمانة عام 2018 أنّ SOS كانت مصدر حوالي 7% من تمويل الأمانة بين كانون الثاني/يناير وأيار/مايو من ذلك العام، رغم أنّ هذه النسبة يُرجّح أنها كانت مجرد تعهدات غير منفذة وليست أموالًا مصروفة بالفعل.
وبحسب شهادة موظفة سابقة في SOS، كانت أسماء الأسد ترتبط بعلاقة شخصية برئيسة مجلس إدارة SOS سوريا، سمر دعبول، بحكم الصداقة العائلية بين الطرفين. إذ إن والد سمر هو أبو سليم دعبول الذي شغل لسنوات منصب مدير مكتب بشار الأسد ومن قبله والده حافظ، وكان أحد أبرز مستشاري العائلة الحاكمة.
بحسب تقارير هربت دعبول إلى الخارج بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، واستقالت بعد ستة أشهر.
رفضت دعبول التعليق في البداية، ثم أكدت كتابياً أن دور قرية الأطفال اقتصر على “رعاية وحماية” الأطفال، منفذة تعليمات السلطات، وأن رفض استقبالهم كان سيحمّلها المسؤولية القانونية، مؤكدة توفير “بيئة آمنة ودافئة شبيهة بالأسرة”. كما نفت دبّول وجود علاقة شخصية مع أسماء الأسد.
ولادة في السجن
كما وُثّق فريق التحقيق ست حالات ولادة على الأقل داخل المعتقلات لأمهات اعتُقلن وهن حوامل.
طبيب في سجن المزة للنساء قال لفريق التحقيق إنهم شهدوا خمس ولادات بين 2018 و2024، بينما في السنوات السابقة قبل صفقات تبادل الأسرى كان هناك من حالتين إلى ثلاث حالات ولادة يوميًا داخل السجن.
وقال الطبيب ذاته: “إذا لم تستطع الأم إرضاع طفلها، كانوا يأخذون الطفل منها بسرعة”.
وتُظهر البيانات التي جمعناها أن مدة بقاء الأطفال مع أمهاتهم قبل نقلهم إلى دور الأيتام تراوحت بين يوم واحد و187 يومًا. من يغيّر أنساب ومعلومات الأطفال؟
تكشف المقابلات والوثائق التي اطلعنا عليها أن الجهة الرئيسية المتورطة في عمليات تغيير الأسماء كانت دار “لحن الحياة”، وهي مؤسسة خاضعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، يعمل فيها أيضًا موظفون غير حكوميين.
وقد مُنحت “لحن الحياة” هذه السلطة القانونية بموجب مرسوم 2007 (المادة 29) و مرسوم 2023 (المادة 19)، اللذين يجيزان إصدار هويات جديدة للأطفال مجهولي النسب.
تكشف سجلات “لحن الحياة” أن أبناء المعتقلين لم يبقوا في مكان ثابت، بل نُقلوا بين دور أيتام مختلفة بشكل متكرر. هذا التلاعب المنهجي يزيد احتمال أن بعض الأطفال الحاليين في “لحن الحياة” ليسوا مجهولي النسب فعليًا، بل أبناء معتقلين فقدوا هويتهم الأصلية بسبب الفوضى المتعمدة والأخطاء في الوثائق.
ظهر هذا التعمّد في خلط الوثائق بوضوح في مذكرة صادرة عن شعبة المخابرات العسكرية – الفرع 227 بتاريخ 23 نيسان/أبريل 2013. وكشفت وثيقة عن تحويل طفلين بدون اسم من المخابرات الجوية إذ إلى دار “لحن الحياة” (المعروفة حينها باسم “زايد بن حارثة”)، مع ملاحظة مكتوبة بخط اليد موسومة بـ “سري للغاية”.
غير أن الوثيقة الرسمية التالية، الصادرة في اليوم التالي، قدّمت فيها مديرة الدار هنادي خيمي رواية مختلفة تمامًا، إذ أبلغ مخفر برزة أن طفلين “عُثر عليهما متروكين” أمام ملجأ للأطفال المصابين بالشلل الدماغي. هذا الاختلاف بين وثائق الأجهزة الأمنية وبلاغات الدار يظهر أن بعض الوثائق تحتوي على أخطاء قد تهدف بشكل متعمّد إلى إخفاء هوية الأطفال وتزوير ظروف دخولهم إلى دور الرعاية.
وبحسب مقابلات أجراها فريق التحقيق، كانت لحن الحياة الدار الوحيدة التي اعتادت إرسال بعض الأيتام إلى الخدمة العسكرية. إذ فرّ نحو 13 شابًا منها إلى لبنان هربًا من التجنيد. وحتى الآن، لا يوجد دليل على أن أيًا من هؤلاء الشبان كانوا من أبناء المعتقلين.
واتهم عدد من الأطفال الذين نشأوا في لحن الحياة إدارة الدار بحرمانهم من معرفة خلفيتهم العائلية. وفي ردّ محامي لحن الحياة عن ندى الغبرة ولمى الصواف على هذه النقطة، أوضح أن المسألة محكومة بالنصوص القانونية النافذة، حيث تنص المادة 24 من المرسوم 2 لعام 2023 على ما يلي: يُحظّر على بيوت لحن الحياة أو السجل المدني أو أيّ جهة أخرى، وتحت طائلة المساءلة القانونية، الإشارة أو الدلالة إلى أن الشخص مجهول النسب في أيّ من الوثائق الرسمية المُتعلّقة به. ويتم التسجيل في سجل الواقعات بشكلٍ سرّي، ولا يجوز الاطلاع على هذا السجل إلا بناءً على طلب من المحكمة المُختصّة الناظرة في دعوى النسب أو إثبات البنوّة.
جهاز سرّي لاحتجاز الأطفال والمساومة عليهم
تكشف وثائق صادرة عن إدارة المخابرات الجوية ووزارة الشؤون الاجتماعية أنّ التعليمات الرسمية تضمنت أوامر صريحة مثل: “عدم تسليم الطفل لأي سبب” أو “عدم اتخاذ أي إجراء بخصوص هذا الطفل من دون الرجوع إلى المخابرات الجوية”.
في سجلات المعتقلين، غالبًا ما لا يُذكر سبب واضح للاعتقال سوى صلة قرابة بشخص مطلوب. لكن الأطفال والنساء كانوا يُصنّفون بمصطلحات مثل: “تفاوض”، “مقايضة”، “ضغط”، أو حتى عبارات أكثر غموضًا مثل: “عمل أمني”.
في العام الماضي، أُدين كلٌّ من علي مملوك، وجميل حسن، وعبد السلام محمود غيابياً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. مملوك كان يشغل منصب رئيس جهاز الأمن الوطني، فيما كان حسن رئيسًا لإدارة المخابرات الجوية، وكان محمود يرأس فرع التحقيق. جميعهم تورطوا في اتخاذ قرارات تتعلق بالأطفال.
أما اللواء الرابع فهو قحطان خليل، الذي كان يشغل منصب نائب مدير المخابرات الجوية وقت تسريب الملفات، ثم رُقّي لاحقًا ليصبح مديرًا للجهاز. خليل يخضع لعقوبات في عدة دول بسبب مجزرة داريا، لكنه لم يُتهم رسميًا بارتكاب جريمة حتى الآن.
دفع الرشوة
لم تتلقَّ بعض الأمهات أي معلومات عن أماكن أطفالهن بعد فصلهن عنهم، فيما أُعطيت أخريات روايات متناقضة. من بين هؤلاء مجد وهي طالبة طب في جامعة دمشق، والتي اعتُقلت في آذار/مارس 2016 مع طفلتها (عام ونصف العام) من بيتها في ريف دمشق.
بعد ثلاثة أيام من التحقيق والحرمان من النوم في فرع المخابرات الجوية في المزة، وُضعت السيدة مجد مع ابنتها في زنزانة انفرادية شهرًا كاملًا، وسط ظروف قاسية تفتقر إلى الحليب والحفاضات. ثم تم تسليمهم إلى رجلان من منظمة SOS، رغم أن المحققين سبق أن وعدوا الأم بتسليمها إلى أقارب العائلة.
ستة أشهر مرّت من دون أي إخطار رسمي، قبل أن تصل للأسرة صورة سرية للطفلة عبر وسيط في الهلال الأحمر.
لاحقًا، ورغم صدور قرار إخلاء سبيل مقابل رشوة بلغت 12 ألف دولار حيث باعوا سيارة وبيتًا لجمع المبلغ، أعيدت السيدة قسرًا إلى فرع المخابرات الجوية بالمزة. ولم يتم لمّ الشمل مع ابنتها إلا داخل مقر المخابرات نفسه، حيث أُحضرت الطفلة إلى غرفة التحقيق وسُلّمت إلى والدتها بعد غياب عام ونصف.
عند عودتها، كانت الطفلة في الثالثة من عمرها، تحمل آثارًا نفسية واضحة: خوف شديد من الرجال، انطواء في المدرسة، وسلوكيات دفاعية متكررة، بحسب ما ترويه والدتها.
على الأقل أسرتان أكدتا أنهما دفعتا ما يقارب 5,000 دولار للحصول على معلومات عن أطفالهم دون جدوى.
كانت زيارات الأطفال في السجن نادرة وقصيرة عادة. على ما يبدو لم يكونوا مستعدين لها، لم يتعرفوا على أمهاتهم أو صُدموا من الظروف هناك.
و تصف موظفة سابقة في SOS كيف أخبرتها زميلة كانت ترافق الأطفال بانتظام أنها لم تتمكن من النوم ليلتين بعد زيارة إلى سجن تعذيب سيء السمعة بشكل خاص.
تنص لوائح SOS على أن “مصلحة الطفل هي الأساس في جميع قراراتنا”، وتدير المنظمة اليوم 550 قرية في أكثر من 130 دولة بوجود نحو 40 ألف موظف. خلال الحرب السورية،
ارتفعت ميزانية منظمة SOS سوريا السنوية بشكل كبير خلال الحرب السورية، من 674,951 يورو في عام 2013 إلى 4,469,274 يورو في عام 2024 (باستثناء برامج الطوارئ)، أي بزيادة قدرها 560%. مع تمويل 98% تقريبًا من 15 جمعية وطنية أبرزها ألمانيا (HGFD) كأكبر ممول.
أبلغ مسؤول في وزارة الخارجية الألمانية فريق التحقيق أن التمويل الحكومي المُقدم إلى منظمة HGFD لم يُستخدم في قرى SOS في سوريا. تُظهر التقارير السنوية لمنظمة HGFD أنها تعتمد بشكل رئيسي على التبرعات الخاصة.
العائلات بلا دعم أو مسار للمحاسبة
نجحت بعض الأمهات في جمع معلومات أدق عن مصير الأطفال وأدلة على تورط المنظمة، ورفع بعضهن شكاوى جنائية، بينما تخطط أخريات للقيام بذلك. قد يواجه الموظفون المتورطون تهمًا تتعلق بالاختطاف وحرمان الحرية.
مع ذلك، أعلنت منظمة قرى الأطفال SOS الدولية أنها تحقق فيما حدث في سوريا، وأن ذلك لا يتماشى مع سياساتها المعتادة.
في بداية هذا العام، أنشأت الحكومة السورية الجديدة لجنة للتحقيق في اختطاف الأطفال ولمّ شمل العائلات. أُغلقت هذه اللجنة لاحقًا، وأُنشئت لجنة جديدة في مايو/ أيَّار، لكن لم يُحرز تقدم كبير، بسبب غياب الموظفين والموارد الكافية حتى لمراجعة الوثائق المتوفرة لديهم. كما تم اعتقال اثنين من وزراء الشؤون الاجتماعية السابقين لمشاركتهم في وضع أبناء السجناء في دور الأيتام، واعتُقلت مديرة SOS قرى الأطفال في سوريا مؤخرًا، بينما احتُجز مؤقتًا عدد من مديري دور الأيتام الأخرى.